إعلانات

في ذكرى سقوط غرناطة... رواية مضادة: 2 يناير... قــصـة اسـتـعـادة أم إبــادة؟

ثلاثاء, 02/01/2024 - 03:47

الحسن المختار

..
في مثل هذا اليوم 2 يناير تحل ذكرى سقوط غرناطة التي يحتفل بها الإسبان باعتبارها انتصاراً لحرب الاستعادة “La Reconquista"، التي مكنتهم من طرد "الغزاة" العرب والمسلمين من آخر موقع لهم في شبه الجزيرة الآيبيرية. وقد تحقق للإسبان ذلك "الانتصار" بشكل كامل سنة 1492م في ظروف ما يزال كثير من تفاصيل روايتها التاريخية غير مكتمل. ومن واقع قراءاتي الشخصية المتواضعة حول ملابسات سقوط الأندلس، أو بكلمة أدق سقوط غرناطة، (لأن الأندلس سقطت عملياً قبل ذلك بزمن بعيد، ولم يبق سوى جيب صغير محيط بعاصمة بني الأحمر)، أزعم بأن من أمتع -وإن لم يكن بالضرورة أدق- الروايات حول تفاصيل ليلة السقوط المريعة ذلك السرد الملحمي الدقيق الذي أورده الروائي اللبناني، وعضو الأكاديمية الفرنسية، أمين معلوف، في روايته الرائعة: "ليون الإفريقي". فعلى رغم كون غرناطة باتت في ذلك اليوم المشؤوم شبه محاصرة، إلا أنه كان يلزم أيضاً كثير من الخيانة، والتخاذل، وانعدام روح المقاومة لدى أبي عبيدالله الصغير، وحاشيته الفاسدة، لكي يخرج آخر حاكم مسلم من شبه الجزيرة الأندلسية مهاجراً إلى العدوة المغربية، دون أن تراق من جنود ألفونسو وإزابيلا، ملكي قشتالة أوراجون، حتى قطرة دم واحدة. وقد بلغ الحال العام في تلك الليلة المنحوسة المتعوسة درجة من الروح الانهزامية، وقِصر النظر، جعلت أبا عبيدالله الصغير يصدق وعود الغزاة الإسبان، والمواثيق التي قطعوها له بشأن سلامة وحرية معتقد رعاياه، الذين تركهم وراءه في الأندلس، منسحباً والدمع منهمل من عينيه، وأمه العربية الحرة تؤنبه: "ابْكِ كالنساء على مُلك لم تستطع الحفاظ عليه كما يفعل الرجال"..
وهكذا سقطت غرناطة، بفعل مزيج من العجز والخوَر والخيانة والغدر. وأما الأندلس نفسها فقد كان سقوطها محتوماً منذ معركة العقاب المشؤومة، بل إن معركة الزلاقة نفسها على رغم ما تحقق فيها من انتصار هائل، لم تكن في الحقيقة سوى تأجيل لسقوط حتمي، كان في النهاية تحصيل حاصل، لأن كل معطيات التاريخ والجغرافيا كانت تحتمه، حتى لو لم يكن في الحقيقة عملية "استعادة"، لأن العرب المسلمين لم يحتلوا الأندلس وينتزعوها من الإسبان، وإنما حرروهم وإياها من طغيان واستعمار القوط.

عام 1492... ثنية وداع

وقد أدى توثب الانتصار الذي حققته إزابيلا وألفونسو، في مثل هذا اليوم من عام 1492، إلى انفتاح شهيتهما لغزو العالم الإسلامي في شمال إفريقيا، وبلاد الشام، وليس خلواً من المعنى هنا أن نفس السنة هذه التي سقطت فيها غرناطة، هي نفسها التي اكتشفت فيها أميركا. ولذا كانت تلك السنة الفارقة بمثابة ثنية وداع حقيقية بين رفقاء القرون الوسطى، حيث بدأ منذ ذلك العام صعود أوروبا وتراجع العالم العربي الإسلامي، -باستثناء الدولة العثمانية التي ظلت إمبراطورية برية قوية ولكن حبيسة وقاصرة النظر استراتيجياً إذ لم تعرف كيف تخرج إلى المحيطات والبحار المفتوحة كما فعلت بلدان أوروبية صغيرة في ذلك الوقت.
وقد سقطت غرناطة في بداية يناير 1492 واكتشفت أميركا في منتصف أكتوبر من نفس العام، بعدما مولت إزابيلا والفونسو حملة القرصان الجنوفي كريستوفر كولمبس لكي يكتشف لهما طريقاً بحرياً من جهة الغرب يؤدي من أوروبا إلى الهند ولا يمر عبر طريق الرجاء الصالح. وكان العرب وحتى الغرب حينها قد توصلوا فعلاً إلى أن الأرض كروية وليست مسطحة، وقد ذكر ذلك من العرب ياقوت الحموي وابن خلدون وغيرهما. ولذا فلابد أن تكون هنالك طريق غربية إلى الهند. وحين اكتشف كولمبس القارة الأميركية ظن أنه قد اكتشف الهند نفسها، ولذلك سمى الأوروبيون سكانها بالهنود الحمر، كما ظلت قارة أميركا كلها، لفترة طويلة، تسمى "جزر الهند الغربية"! بل إن كولمبس نفسه مات قبل أن يعرف أنه قد اكتشف قارة جديدة. بل إنه كان يرفض من الأساس مجرد التفكير في ذلك لأنه لا يمكن أصلاً وجود أرض بهذا الحجم لم يذكرها الكتاب المقدس!
وكان غرض ملكي قشتالة وآراغون من وراء حملة كولمبس هو جمع قدر كبير من المال يكفي لتمويل حملة صليبية لـ"تحرير بيت المقدس" من "أعداء المسيح". وحين عادت سفن كولمبس مليئة بالذهب مول ملوك إسبانيا حملات على بعض مدن شمال إفريقيا مثل طرابلس، وبعض ثغور شمال المغرب الأقصى. ولكن لعنة المعدن الأصفر حلت بهم بسرعة وأدت إلى تضخم هائل أدى إلى سقوط الاقتصاد الإسباني نفسه. كما أن جشع التوغل داخل قارة أميركا واستكشاف أراضٍ بكل هذا الحجم، كان من لطف الله، شاغلاً للملكين الإسبانيين عن شمال إفريقيا، وربما لولاه لكانا استكملا غزو جميع المغارب ومصر، وفعلا بسكانه ما فعلاه من إبادة وتنصير بسكان الأندلس المسلمين.

إبادة شعب كامل

لقد كان عدد سكان الأندلس من المسلمين بالملايين، وكان يفوق عدد سكان معظم بلاد المغرب العربي، التي أنهكها الطاعون الجارف في منتصف القرن الرابع عشر وقضى على أكثر من ثلث سكانها، ولذلك حين سقطت غرناطة وهي آخر ثغر للمسلمين على العدوة الأندلسية، بدأت موجة نزوح واسعة من قبل المسلمين باتجاه المغربين الأقصى والأوسط (الجزائر)، وأحياناً إلى إفريقية (تونس)... بل لقد وصلت هجرات الموجة الأولى هذه إلى طرابلس وبرقة (مدينتا بنغازي ودرنة خاصة)، وكذلك الإسكندرية. واستقرت 40 أسرة أندلسية تقريباً في المدينة المنورة. ولكن ظلت النسبة الأكبر من سكان الأندلس عاجزة عن النزوح بحكم العائق البحري، وارتباطاً وتعلقاً بالأرض والممتلكات، وأيضاً لعوائق سلطوية وضعها الملكان الكاثوليكيان، وأخيراً بسبب عدم استقرار بلاد المغرب العربي نفسها، حيث تعرض معظم النازحين الأندلسيين للنهب وتخطفتهم على المراسي بشمال إفريقيا أيدي الظلمة والناهبين. وبسرعة وجدوا أنفسهم أمام حال من المصائب والنوائب والمحن وتوالي الفتن شبيه بحال مسلمي صقلية بعد سقوطها بأيدي الكاثوليك. وقد فصَّل في أحوال الصقليين المسلمين ما بعد السقوط في زمن الملك روجر "العادل" الرحالة ابن جبير الأندلسي في رحلته، وهو حال يقطر له القلب دماً، لفظاعته وصعوبته.
وبعد فترة غير طويلة نكث الملوك الكاثوليك الإسبان بوعدهم وراحوا يفرضون التعميد والتنصير الإجباري على المسلمين، ويصادرون مساجدهم ويحولونها إلى كنائس، كما صودرت أرباضهم (أحياؤهم) وكان كل يوم جديد يحمل معه مصادرة لبلدة أو مغارس زيتون أو فحص (قرية) للأندلسيين. كما بدأت إبادة عرقية ودينية حقيقية، حيث كان رجال قرى بكاملها يقتلون في سحابة يوم واحد دون ادنى سبب، وتسبى نساؤهم وأطفالهم. وكان كل من تظهر عليه أعراض فهم ولو بسيط لأحكام الدين الإسلامي يعتبر "كافراً" و"مهرطقاً" و"محمدياً" ويحرق حالاً. كما منع المسلمون أيضاً من تذكية الذبائح، وختن الأطفال، وأي مظهر آخر من مظاهر الحياة الإسلامية. كما نشطت عمليات أسر القرويين المسلمين وتهجيرهم قسراً إلى القارة الأميركية لتغذية الاستيطان بهم هناك، وأولئك المهجرون الأندلسيون هم من نلمس آثارهم الآن في أسماء بعض المدن والبلدات في أميركا اللاتينية، مثل كوردوبا (قرطبة) وغرينادا (غرناطة) وفالنسيا (بلنسية) وجوادالاخارا (وادي الحجارة) وبلادوليد (بلد الوليد) وهكذا...
كما راحوا يهجّرون قسراً أيضاً موجات جماعية من المسلمين وخاصة بعدما نشطت محاكم التفتيش التي تفرض التنصير وتحرق أو تشنق كل من يظهر عليه أي أثر للإسلام. وكان المسلمون الأندلسيون يومذاك بين نارين... نار محاكم التفتيش والتقتيل والتحريق الكاثوليكية في الأندلس، ونار السلب والنهب والاستعباد في سواحل المغارب. فكانوا أمام خيار صعب بين الدين والوطن، وبين حالين كلهما محن وفتن... ولذلك كان من يبقى منهم في الأندلس تحت سياط القساوسة الظلمة ومقاصل محاكم التفتيش الظلامية يحلم بالهجرة إلى فردوس المغارب حيث جنة أرض الإسلام... ومن يهاجر منهم إلى المغارب فيجد الظلم والسلب والنهب يحلم هو أيضاً بالعودة إلى فردوسه الأندلسي المفقود... وهؤلاء الأخيرون المهاجرون بدينهم إلى أرض الإسلام في المغارب الذين يتشوقون مع ذلك للعودة إلى الأندلس التي خرجت من دائرة أرض الإسلام، رُفع أمرهم -تحديداً- إلى العلامة الونشريسي صاحب "المعيار" وقد كتب عنهم فتواه الشهيرة "أسنى المتاجر... فيمن غلب على بلده النصارى ولم يهاجر" حيث بنى فتواه بشأنهم على ثنائية الولاء والبراء الشهيرة.

موجة التهجير الكبرى

ومع بدايات القرن السابع عشر تمت عملية التهجير النهائية للمسلمين الأندلسيين حيث هجّرت إسبانيا ما لا يقل عن مائتي ألف من الموريسكيين ورمت بهم على شواطئ المغارب، وهؤلاء لم يعودوا أندلسيين بالمعنى المعتاد وإنما صاروا موريسكيين (أي إيبيريين من أصول أندلسية). وقد لقي هؤلاء معاملة أسوأ بكثير من تلك التي لقيتها موجات عهد السقوط الأولى، حيث إن موجة القرن السابع عشر هذه تمت في ظروف مختلفة، نشطت فيها الحرب البحرية "القرصنة" في عرض البحر المتوسط، كما جاء المهجرون الموريسكيون فيها وقد فقدوا في الغالب أية علاقة باللغة العربية، والإسلام، وكان قليل من المسنين منهم لديه فكرة بسيطة عن الإسلام، تلقاها سراً وفي خفية من رقبة محاكم التفتيش، وقد جرى تناقلها شفهياً عبر الأجيال عمن عاصروا عهد السقوط. كما أن مهجري هذه المرحلة كانوا جميعاً يلبسون ملابس قشتالية، ويتكلمون باللسان القشتالي. لذلك كانوا أندلسيين بالأصل فقط، ومسلمين سوسيولوجيين لا أكثر. ولولا انعزالية وتعصب الإسبان، لما هجّروهم أصلاً من بلادهم، لأنهم لم يعودوا أندلسيين، بل صار الأدق هو تسميتهم بالموريسكيين، أي أندلسيين "تأسْبنوا" واندمجوا في نسيج الثقافة الإسبانية. وبتهجير هذه الموجة الأخيرة التي استقر معظمها في معظم مدن شمال المغرب، وكذلك فاس وسلا على نهر أبي رقراق، وبعض بلدات شمال غرب الجزائر مثل تلمسان وندرومة وميلة، وخاصة في تونس التي اجتذبت عدداً كبيراً بحكم استقرارها النسبي يومذاك، بذلك كانت قد طويت صفحة الوجود الإسلامي في الأندلس من الناحية السكانية على الأقل...

وللحديث بقية... إن شاء الله.