إعلانات

لا مجال للقبح.. كيف يذكرنا هالاند بسياسة تحسين النسل في الدول الإسكندنافية؟

أربعاء, 26/10/2022 - 04:17

 

 

محمد عزت

 

 

أصبح "إرلينغ هالاند"، اللاعب النرويجي ذو الثانية والعشرين عاما، ظاهرة في عالم كرة القدم منذ انتقاله بداية هذا الموسم إلى نادي مانشستر سيتي الإنجليزي، حيث حقَّق أرقاما تهديفية غير مسبوقة، وأدَّى أداء بارعا، وأظهر قوة بدنية هائلة في الدوري الأقوى بالعالم، مما جعله يظهر وكأنه رجل خارق أكثر منه لاعب كرة قدم. بل وسرت شائعة عن عريضة وقَّع عليها مليونا مواطن إنجليزي ليتقدَّموا بها إلى مجلس العموم البريطاني من أجل طرد هالاند من الدوري الممتاز، مُحتجين بأن الرجل أقرب إلى إنسان آلي، وأنه يُفسد بأهدافه وأدائه الأسطوري المنافسة في كرة القدم، وهي شائعة وجدت حيزا من التصديق وتناقلتها وسائل الإعلام.

 

يصاحب الحديث عن هالاند وتألُّقه الحديث عن مواصفاته الجسدية، ويذكر البعض في هذا السياق ما يعتقد بأنه "طبيعة استثنائية" للشعب النرويجي والشعوب الإسكندنافية من حيث مقومات الصحة والقوة البدنية. فدائما ما يصف بعض الغرباء أبناء الشعوب الإسكندنافية بأنهم شديدو الجمال والجاذبية، فضلا عن تمتعهم بأجساد صحية وقوية، بل وتقول عنهم شعوب غربية أخرى الشيء نفسه، فهُم يُمثِّلون معايير الجمال الأوروبية بحذافيرها في نظرهم. ولكن الحديث عن "جينات" ومواصفات الشعوب الإسكندنافية الشكلية يُذكِّرنا بوقائع مظلمة في التاريخ القريب، حين دعمت الحكومات الإسكندنافية المؤسسات والعلماء ممن خافوا على هذا الطراز "الفريد" أو "الجينات المتفوقة" كما سمّوها للرجل الشمالي الأوروبي، ومن ثمَّ منحتهم السلطات صلاحيات ذهبوا بها بعيدا جدا من أجل حماية هذا الطراز الإسكندنافي الفريد.

 

العلم والسلطة.. والنظافة العِرقية

في بدايات القرن العشرين، كان "جون ألفريد مجوَين" (Jon Alfred Mjøen)، عالم الكيمياء العضوية، أول مَن تحدث عن النظافة العِرقية وتحسين النسل في النرويج، ووضع الأساس الأول لأفكار هذا التيار في البلاد، إذ رأى أن واجب النرويجيين تجاه العالم أن يحافظوا على نظافة عِرقهم وجودته. واعتقد الرجل أن الحضارة الحديثة، بما تشمله من تقدُّم الطب وسياسات التأمين الصحي والاجتماعي ومؤسسات رعاية ذوي الإعاقات الحركية والذهنية، تُمثِّل تهديدا للانتخاب الطبيعي وجودة العِرق. وقد مَثَّلت أفكار الرجل قاعدة لانطلاق سياسة تحسين النسل النرويجية في القرن العشرين، فقد بدأت في ذلك القرن سياسات التعقيم الإجباري في النرويج والدنمارك وفنلندا، بينما شهدت السويد أشد التجارب شراسة التي بدأت عام 1934 ولم تنتهِ إلا عام 1976.

"جون ألفريد مجوَين" (Jon Alfred Mjøen)، عالم الكيمياء العضوية

"جون ألفريد مجوَين" (Jon Alfred Mjøen)، عالم الكيمياء العضوية (مواقع التواصل الاجتماعي)

على مقربة من "مجوَين"، بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، كان العالم السويدي "هيرمان بِرنارد لوندبورغ" (Herman Bernhard Lundborg) هو الآخر يقود حركة نظافة عِرقية في السويد. فلم يكتفِ الرجل بالأبحاث العلمية رغم شهرته الدولية في هذا الوقت، لكنه أراد أن يلعب دورا سياسيا في "الحماية الجينية" لبلاده، إذ كان مهووسا بمستقبل العِرق الإسكندنافي، وأقام معرضا تجوَّل به في شتى أنحاء السويد لرجال يُجسِّدون من وجهة نظره "العِرق السويدي المتفوق"، كما ساهم في تنظيم مسابقة جمال لإيجاد الرجل المثالي الذي يُمثِّل العِرق السويدي الجرماني. وقاد "لوندبورغ" بعد ذلك المؤسسة الوطنية للبيولوجيا العِرقية، التي قامت فيما بعد بعمليات تعقيم قسرية لحاملي "المواصفات الأدنى" غير المرغوب في تكاثرهم.

صورة مقتطعة من كتاب "أنواع الشعوب السويدية" (Svenska folktyper) (مواقع التواصل)

في الصورة أعلاه المقتطعة من كتابه "أنواع الشعوب السويدية" (Svenska folktyper)، أظهر "لوندبورغ" صورتين لفتاة (أعلى اليمين) من أعراق مختلطة في شمال البلاد (الذي رآه أكثر المناطق خطورة على جينات شعبه حيث تزاوج السويديون مع ذوي الأعراق الأخرى)، بالمقارنة مع فتاتين إسكندنافيتين أصليتين (أسفل اليسار) لم تختلط جيناتهما بأعراق أخرى. وبالطبع المقصود من الصورة واضح، إذ إن الفتاتين صاحبتَيْ العِرق الشمالي الصافي أسلم صحيا وأجمل شكلا في نظر "لوندبورغ".

 

أما الصورتان التاليتان أدناه، فأظهر فيهما "لوندبورغ" ملامح فلاح من شمال السويد من تلك العائلات التي لا تحمل "العِرق الإسكندنافي النظيف" (الجزء الأعلى)، وأثبت من خلالها مدى سوء نتائج فقدان الجينات الإسكندنافية الأصلية من حيث اعتلال الصحة وتدني معايير الجمال، في مقابل صورة رجل إسكندنافي من الأعراق المسماة بالشعوب الأصلية التي قدَّمها باعتبارها تمثيلا للجينات السويدية الخالصة المتفوقة في نظره (الجزء الأسفل).

 

فلنبدأ رحلة الارتقاء البيولوجي

"أنا لست من عشاق السويد، إنهم قوم مرعبون، لقد استخدموا نظرية تحسين النسل رسميا حتى السبعينيات، بمعنى أنك إذا كنت قزما أو تعاني من ضمور في العضلات، فإنهم أتوا إلى مدرستك وعقَّموك إجباريا".

حين أطلق "جيم جَيفريز"، الممثل والكوميديان الأميركي-الأسترالي، هذه الكلمات في برنامجه الكوميدي عام 2017، بدا حديثه غريبا للغاية على مَن شاهدوا المقطع، إذ ارتبطت الدول الإسكندنافية عموما في عقول الكثيرين بالمؤشرات الإيجابية وجودة الحياة، ولم يتحدث كثيرون عادة عن هذا الملف المظلم في تاريخها. وقد خَتَم "جَيفريز" حديثه بنكتة سوداء عن طريق عرض صورة لفاتنات سويديات مُغازلا إياهن ضمنيا بالقول: "لا يمكننا أن نجادل في جودة نتائج تلك السياسات"؛ فضحك الجميع، وهي النكتة نفسها التي يمكن أن تنطبق على هالاند الذي بات حديث الساعة في عالم الكرة هذه الأيام. ولكن تقبع وراء هذه النكتة حقائق مظلمة عن سياسات طُبِّقَت في دول إسكندنافية حتى سبعينيات القرن الماضي، اعتقادا بأنها تساعد في حماية "الجمال" و"النظافة العِرقية" لشعوبها.

 

تعود جذور هذه السياسات إلى القرن التاسع عشر، حين جاء الفيلسوف الألماني "فرِدريك نيتشه" بمطرقته الفكرية وهَدَم أركان أساسية في الفكر الغربي، إذ رأى نيتشه أن التنوير الغربي رغم وصوله إلى مرحلة متقدمة في إقصاء مفهوم الإله من الفِكر، فإن ظلال الإله تظل موجودة. فلا تزال الأخلاق المسيحية تسيطر على المجتمع الغربي في عقله اللا واعي، وهي أخلاق سمَّاها "أخلاق العبيد" التي تنصر الضعفاء على حساب الأقوياء على حد قوله، ومن ثمَّ مهَّدت الطريق لأفكار سياسية مثل الديمقراطية والمساواة اعتبرها نيتشه النسخة المُعَلمنة من المسيحية، التي تحاول مساندة معدومي الامتيازات في الحياة على حساب الأقوياء. وقد بشَّر "نيتشه" في المقابل بعودة "السوبرمان" أو الإنسان الخارق القادم الذي سيتخطى ذلك الإرث المسيحي وظلال الإله المُحتضِر في الحضارة الغربية، وينطلق عالي الهمة مملوءا بأخلاق القوة والسعي نحو المكانة الحقيقية.

 

ورغم أن أغلب تأويلات فلسفة "نيتشه" بعد ذلك حاولت تبرِئته مما اعتبره البعض مقصدا عِرقيا أو عنصريا كامنا في كتاباته، وقالت إن الإنسان الأعلى الذي تحدَّث عنه نيتشه إنما قصد به معنى فلسفيا ذهنيا، وليس صفات بيولوجية، فإن الكثير من الفلاسفة الذين برؤوه أكدوا في الوقت نفسه أن فلسفته يمكن أن يُساء تفسيرها بسهولة واستخدامها في سياق دارويني-اجتماعي، وهو ما حدث بالفعل في النظام النازي الألماني، الذي اعتبر أفكار "نيتشه" الإلهام الحقيقي له.

 

بشكل مماثل، كان "فرانسيس جالتون"، ابن عم "تشارلز داروين" وصاحب المواهب المتعددة، قد قرأ أعمال "داروين" قراءة مُعمَّقة ووصل بها إلى فكرة سيكون لها تأثير خطير في القرن العشرين، وهي فكرة "تحسين النسل". وقد انطوى "تحسين النسل" على شقَّيْن؛ أولهما أن يعمل المجتمع على تكاثر أصحاب أفضل الجينات داخله، وثانيهما -الذي اكتفى جالتون بالإشارة إليه تلميحا- أن يمنع المجتمع أصحاب الجينات المعيبة (مثل الأقل ذكاء أو معطوبي الصحة أو الضعفاء) من التكاثر، قائلا إنهم يمكنهم الذهاب إلى أديرة العُزاب.

 

"فرانسيس جالتون"، ابن عم "تشارلز داروين"

 

"فرانسيس جالتون"، ابن عم "تشارلز داروين" (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

كان المثقفون الغربيون آنذاك في صدمة نظرية داروين، وقد استوعب العديد منهم جملة داروين "البقاء للأصلح" وكأنها "البقاء للأقوى"، فنجد المفكر الأميركي الشهير "مارك سبِنسر"، الذي تأثر بقراءة داروين أيضا، قد طبَّق النظرية على مجال الاقتصاد والاجتماع، ليجادل بأن الحكومة لا بد ألا تتدخل في السوق وتترك الأقوياء يفترسونه وألا تطبق سياسات تحمي الفقراء، تماما كما يحدث بين أسد قوي وغزالة بطيئة في الطبيعة، حيث يكون البقاء في النهاية للأقدر على البقاء.

 

كانت أفكار "جالتون" محطة أخيرة بعد تدافع فلسفي كبير حدث في القرن التاسع عشر في أوروبا نتيجة محاولة قراءة داروين من زاوية اجتماعية. وبعد موت الرجل الذي صاغ فكرة تحسين النسل بعام واحد، انعقد أول مؤتمر دولي لتحسين النسل، وبدأت بعض الحكومات الغربية تسن قوانين لذلك عن طريق تعقيم غير المرغوب في تكاثرهم للتخلص من الجينات المعيبة، وقد كانت الحكومات الإسكندنافية في طليعة الحكومات التي طبَّقت تلك القوانين.

 

 

 

حين عقَّمت الحكومات الإسكندنافية آلاف البشر إجباريا

إذا أردنا أن نؤرخ لرحلة البلاد الإسكندنافية مع تحسين النسل، يمكننا القول إن القوانين المرتبطة بهذا التقليد العلمي الاجتماعي تعاقبت لعقود على النحو التالي: في الدنمارك بين عامَيْ 1929-1967، وفي فنلندا بين عامَيْ 1935-1970، وفي آيسلندا بين عامَيْ 1938-1975، وفي النرويج بين عامَيْ 1934-1977، وفي السويد بين عامَيْ 1934-1976.

 

فمع شيوع الاتجاه الفلسفي والبيولوجي نحو تمجيد القوة في الغرب أثناء القرن التاسع عشر، تشكَّلت المؤسسات القانونية البيولوجية في الدول الإسكندنافية بهدف الحد من اختلاط الأعراق ومباشرة سياسات التعقيم والإخصاء والإجهاض لمنع تكاثر المرضى وذوي الإعاقات العقلية وأصحاب الأمراض الوراثية، وفي بعض الحالات أيضا البشر غير المرغوب فيهم اجتماعيا (لأنهم فقراء أو قد يُثقلون كاهل دولة الرفاه أكثر من اللازم). وقد قُدِّر إجمالي عدد الضحايا بين عامَيْ 1935-1975 في السويد بـ63 ألف شخص، أكثر من 90% منهم من النساء، وفي النرويج 40 ألف شخص، وهي الأرقام الأعلى في المنطقة لضحايا تلك السياسات.

 

 

من الغريب أن هذه القوانين التي سُنَّت للحفاظ على ما سُمي الأسرة الوطنية والمخزن الجيني الوطني تمتعت بتأييد واسع في البلاد شمل معسكرَيْ اليمين واليسار. ففي السويد مثلا كان "الحزب الاجتماعي الديمقراطي" الحاكم الذي ينتمي إلى يسار الوسط هو الذي دفع بهذه القوانين. ولم تُثِر تلك الخطوات في البلاد الإسكندنافية جدلا أو نقاشا أخلاقيا حول مشروعيتها حتى عام 1945، حيث نُظِر إليها بوصفها وسيلة جيدة للحفاظ على موارد الدولة الاقتصادية وتوفير تكاليف برامج الرعاية الصحية للضعفاء، فضلا عن قدرتها على دعم الهوية والبيولوجيا الوطنية.

 

لعل الأيديولوجيا التي ذاع صيتها في البلاد كانت أخطر من عمليات التعقيم نفسها التي طالت آلاف الإسكندنافيين غير المرغوب بهم. فقد تمكَّنت تلك الأيديولوجية من محاصرة فرص المختلفين في الحياة والتكاثر حتى بدون تعقيم إجباري، وتتلخَّص هذه الأيديولوجيا كما صاغها "ألفريد مجوَين" في "أن نتعلم التفريق بين الحق في الحياة والحق في تمرير الحياة"، فالحق في الحياة مكفول للجميع، بينما الحق في تمرير الجينات ينبغي أن يكون حكرا على أصحاب الجينات الإسكندنافية الجرمانية عالية المنزلة على حد قوله. إن الفلسفة المؤسِّسة للفكرة كلها تقول إن هناك أفرادا متفوقين بيولوجيًّا وأفرادا أدنى منهم، وأنه ينبغي لنا تعليم المجتمع ثقافة انتقاء المتفوقين، ولا نسمح بتمرير جينات الضعفاء، بكل ما يعنيه هذا الضعف.

 

حتى هؤلاء العلماء الذين عارضوا "مجوَين" في النرويج في بعض التفاصيل، ووصموه بأنه "عالم زائف" في بدايات القرن العشرين، لم يكن خلافهم معه حول أصل فكرة "الحفاظ على العِرق الإسكندنافي". وفي وقت لاحق، انضم سياسيون يساريون بارزون إلى حملة الترويج لقوانين التعقيم الإجباري في النرويج، مع تأكيدهم التفريق بين تحسين النسل من جهة والعنصرية تجاه عِرق بعينه من جهة، معتقدين أنهم بذلك رسموا خطا فاصلا مع النازية. فقد تمركزت النازية حول الأعراق بمعناها الإثني والقومي الذي يزدري شعوبا كاملة لا تنتمي إلى العِرق الآري والألمان في القلب منه، في حين هدفت أفكار أنصار تحسين النسل في إسكندنافيا، لا إلى ازدراء شعب بعينه لأسباب عِرقية، بل لتعزيز العوامل الجينية المرتبطة بالصحة والقوة على حساب الضعف ليس إلا. بيد أن الحد بين المفهومين لم يكُن دوما فاصلا وواضحا.

Head Measurements, testing for Aryan Qualities, c.late 1930s, film still from Ordinary Fascism

 

قياسات الرأس، اختبار للصفات الآرية، أواخر الثلاثينيات (شترستوك)

 

طريق النقاء الإسكندنافي

واحدة من أكثر الجماعات في النرويج والسويد التي استُهدِفت بواسطة سياسات تحسين النسل هي جماعات "الغجر" (شعب الروما) كما بيَّنت التقارير التي نشرتها وزارة الثقافة السويدية بين عامَيْ 2003-2015، ووزارة التنمية الإقليمية النرويجية عام 2003. وقد صرَّح "يوهان شارفنبرغ"، أحد أبرز مَن أُطلق عليهم "علماء تحسين النسل"، بضرورة اتخاذ إجراءات تعقيمية ضد الغجر صراحة لأنهم "مجرمون بالفطرة"، في حين وصف عالم تحسين النسل السويدي "نيلس فون هوفستِن" الغجر بأنهم "أفراد أدنى وراثيا". وفات هؤلاء العلماء بالطبع أن الأقليات العِرقية التي تعاني مشكلات اجتماعية مثل الفقر والمرض بسبب تهميشها إنما تنخرط في الجرائم وتحظى بفُرَص صحية وتعليمية أقل، ليس بسبب جيناتها، بل بسبب موقعها الاجتماعي، وأنها إن توافرت لها الفُرَص كاملة مثل أقرانها الإسكندنافيين، فستتضاءل بوضوح معدلات انخراطها في الجريمة وإصابتها بالأمراض.

 

لقد مَثَّل وجود الغجر في الشوارع الإسكندنافية بسكانها البيض حالة "شاذة" في أنظار البعض، وانتشر تصور ضمني بين علماء تحسين النسل وقطاع عريض من السياسيين السويديين أن ما يجب فعله معهم هو اتباع سياسات التعقيم الإجباري رحمة بهم وبنسلهم الذي ينبغي ألا يأتي. وكان مبرر تعقيم إحدى هؤلاء الغجر، وهي فتاة عمرها 17 عاما فقط حينئذ، أن لها وجها "مغوليا" داكنا، و"عقلية مغولية أيضا قائمة على المراوغة والجبن والخداع". ونلاحظ هنا واحدة من الأفكار المؤسِّسة فيما سُمِّي بعلم تحسين النسل، وهي أن شكل الناس وجسدهم يُعبِّران عن شخصياتهم. وقد تطورت هذه الأفكار في النهاية إلى قوانين حظرت الزواج من الأشخاص ذوي الأمراض والإعاقات العقلية، فضلا عن المصابين بأمراض تناسلية وأصحاب السجل الإجرامي، وقد بدأت في ولاية كونيتيكت الأميركية عام 1896، قبل أن تقفز إلى أوروبا في النرويج عام 1918، والسويد عام 1915، والدنمارك عام 1922، وفنلندا عام 1929.

 

هدفت هذه القوانين إلى منع انتشار الجينات المعيبة، وجدير بالذكر هنا أننا حين نتحدث عن الأمراض ومشكلات الصحة العقلية التي اشتملت عليها هذه القوانين، فنحن نتحدث عن مفاهيم مطاطية للغاية تحوَّلت باستمرار من خلال تفاعل المؤسسات القانونية والطبية. وقد أفرد الفيلسوف الفرنسي الشهير "ميشيل فوكو" في كتابه الأشهر "تاريخ الجنون" صفحات لمناقشة هذه المسألة، فلم تكن الفكرة فقط عزل الأشخاص المختلفين عن المجتمع، وإنما منعهم من نقل دونيتهم الجسدية والعقلية إلى أجيال جديدة كما اعتقد صُنَّاع تلك السياسات. في الدنمارك على سبيل المثال وحتى عام 1945، كان نحو 78% من أولئك الذين تم تعقيمهم هم ممن سمَّتهم السلطة الطبية في ذلك الوقت "متخلفين عقليا"، وكان عدد النساء منهم ضعف عدد الرجال.

 

كتاب "تاريخ الجنون"

 

 

ثمة نقطة شديدة الأهمية هُنا، وهي أن فكرة تحسين النسل كما سبق وذكرنا ارتكزت على أساسَيْن؛ أولهما ما سُمِّي "تحسين النسل الإيجابي" عن طريق تشجيع الأفراد المتفوقين جينيا على التكاثر، وثانيهما ما سُمِّي "تحسين النسل السلبي"، وإحدى أدواته تعقيم غير المرغوب فيهم إجباريا. ورغم أن مَن تم تعقيمهم إجباريا على أرض الواقع أعداد قليلة من البشر مقارنة بعدد السكان، وأن الكثير منهم جرى تعقيمهم لأسباب طبية أكثر من كونها "تحسينية"، لكن الأهم هو الثقافة "البيولوجية" التي خلقها تحسين النسل في عقول صُنَّاع القرار والسياسيين وبعض أنصارهم، وانحازت لها الدول الإسكندنافية لفترة طويلة في القرن العشرين، وهي ثقافة تشجع على تكاثر المجتمع عبر "المتفوقين جينيا" أكثر من سواهم.

 

فعلى مدار عقود طويلة، قُدم الزواج في الدول الإسكندنافية على أنه قضية بيولوجية أو طبية وليس قضية دينية (يتحكم فيها الدين أو الكنيسة) أو حتى قضية اجتماعية يحكمها التوافق والتناسب أو مسألة شخصية تحكمها الميول والرغبات. وبدلا من خطاب المؤسسة الدينية الذي يشجع على اختيار الشريك بناء على قيمته الأخلاقية والدينية، هيمن الخطاب البيولوجي عن اختيار الشريك الذي يستحق تمرير جيناته على المستوى "البيولوجي"، وصارت هذه الجينات هي الأساس الجديد لسياسة تنظيم الأسرة لفترة طويلة من الزمن.

 

 

 

لذلك، حين تشاهد المباراة القادمة لهالاند بعد قراءة هذا المقال، ستفكر ماذا لو أن جدّه الرابع كان قد أحب امرأة تعاني من الصرع بعض الوقت، فمنعتهما القوانين من الزواج أو أجرت عليها التعقيم الإجباري، ومن ثم اختار زوجة أخرى تُمثِّل المعايير الإسكندنافية "المثالية"، فنشأت له سلالة مختلفة عن تلك التي أرادها في البداية. لا شك أن سياسات تحسين النسل لم تُطبَّق على أعداد ضخمة في الأخير، وأن عشرات الآلاف الذين حُرموا الإنجاب لم يكُن نسلهم ليؤثر سلبا على النظافة العِرقية كما ظن صُنَّاع القرار الإسكندنافيون آنذاك، الذين لم يحسبوا حساب عصر جديد من العولمة ستتوافد فيه أضعاف تلك الأعداد في صورة مهاجرين على القارة الأوروبية كلها، لا لـ"تلوِّث" الأعراق الأوروبية، بل لتُعيد التوازن إلى هرمها الديمغرافي وتملأ آلاف الوظائف الفارغة في القارة العجوز. في نهاية المطاف، ربما يكون الأهم من التفكير في التعقيم الإجباري باعتباره ممارسة مُظلمة حدثت في الماضي القريب، هو التفكير في الثقافة العنصرية التي أوجدته وربما لا تزال بذورها حية وبقوة حتى اللحظة.

————————————————————————————–

المصادر

1– Eugenics and the Welfare State: Sterilization Policy in Denmark, Sweden, Norway, and Finland. 

2- Eugenics and bodily discipline in the Scandinavian welfare state A genealogy of gendered othering. 

3- Something Rotten in the State of Denmark: Eugenics and the Ascent of the Welfare State. 

 

 

4- An Unholy Union? Eugenic Feminism in the Nordic Countries, ca. 1890-1940 

5- The Legacy of Eugenics in Scandinavia.

6- Measuring the Master Race: Physical Anthropology in Norway 1890-1945.

7- Eugenics in the Nordic countries.

8- Eugenics and Francis Galton.

 

9- The Antichrist.

10- The Jim Jefferies Show.

11- The Legacy of Eugenics in Scandinavia.

المصدر : الجزيرة