إعلانات

صلاح المختار يكتب... ثَوْرَةُ تِشْرِينَ تَنْتَصِر

اثنين, 05/10/2020 - 05:35

 

مر عام على الثورة التي سجلت بأنها كانت تحولاً فاصلاً في تاريخ العراق كله، فقد تعرض إلى عملية هي الأخطر في تاريخه كله لتغيير هويته العربية وفرض هويات غابرة أو مصطنعة على أجزاء منه وتقسيمه وتسمية التركة بدول جديدة، وهذا مخطط صهيوني غربي، وأحد أهم الأسباب لوضع تلك الخطة حماية الكيان الصهيوني، ومنع نهوض العراق، لأن العراق إذا نهض يقلب الموازين الإقليمية وربما الدولية بتحرير ثرواته وأرضه وسياساته، وهو ما فعله عبر تاريخه الطويل، من هنا فإن إخماد صوت العراق هدف استراتيجي ثابت في كل الاستراتيجيات الغربية والصهيونية والفارسية والتركية.

الغرب والصهيونية فشلا في تحقيق الهدف وحصل نهوض عراقي نوعي أثناء الحكم الوطني قبل غزوه جعل العراق يفلت من قبضة الغرب ويتجاوز خطوطه الحمر وأبرزها منع امتلاكه العلوم والتكنولوجيا الحديثة وإنشاء جيش من العلماء والمهندسين والخبراء، وتحويل موارد النفط إلى قوة جبارة للتنمية والنهوض وإنهاء استغلال العراقي الذي كان ضحية لظلامية الأمية التي كانت تزيد هي والفقر على أكثر من 80% من السكان، وهكذا بوجود قيادة وطنية مقتدرة وصلبة نهض العراق بقوة أدهشت العالم وأقلقت من قرر إبقاءه متخلفاً ومهمشاً، فنفذت خطة متكاملة لتقسيمه، ولكن اعتمدت اسرائيل الشرقية، بعد أن فشلت قوى الاستعمار القديم وهما فرنسا وبريطانيا، كما فشل الكيان الصهيوني وأمريكا بعدهما، رغم تحريك كافة القوى الإقليمية والدولية لتفكيك العراق خصوصاً بتفجير فتن طائفية وعنصرية، وهي التي أثبتت بالقطع أن تنصيب خميني ديكتاتوراً على بلده كان قراراً غربياً –صهيونياً لأننا نرى الآن نتائجه وآثاره والتي خدمت مباشرة الأهداف الغربية والصهيونية وأكثر مما حلمت به الصهيونية والغرب.

بعد غزو العراق سخرت أهم إمكانيات أمريكا ودول أوروبية والقوى الإقليمية وفي مقدمتها الإسرائيليتين الغربية والشرقية لتنفيذ خطة تقسيم العراق على أن تبدأ بتدمير الدولة العراقية وتفكيك المجتمع عبر فوضى هلاكة تضعه فوق صفيح ساخن يزداد سخونة كلما مر الزمن من أجل إجبار الناس على قبول المر والتخلي عن قيمهم وتقاليدهم وروابطهم حتى الرحمية! وكانت التنظيمات الطائفية خصوصاً التابعة لطهران هي الأشد قسوة ووحشية في تنفيذ خطة إهانة شعب العراق عمداً وجرح كرامته وتقزيم دولته بإلحاقها كولاية إيرانية،ونشر الأمراض الاجتماعية كالفساد والمخدرات والشذوذ الجنسي وتفكيك الأسرة والتجويع الذي استخدم كوسيلة للإذلال المنظم والتجهيل المخطط بنشر الخرافات وتدمير التعليم وإبادة آلاف العلماء وتهجير ملايين العراقيين العرب الذين كانوا مصابيح العراق علماً وثقافة وفناً.

ورغم كل ما عاناه شعب العراق من مظالم غير مسبوقة من دمار هائل في النفوس والعمران فإنه كان قادراً على احتواء تلك الفتن والكوارث ومنع تحولها إلى ظاهرة شعبية سائدة، وتوج رفضه المطلق لخطة تغيير هويته وتقسيمه بانتفاضة شعبية هائلة شملت ملايين العراقيين، خصوصاً من جنوب العراق، حيث كانت قوى الغرب والصهيونية تعتقد بأنه (خزين بارود إيراني مضمون ليكون أداة إنهاء العراق إلى الأبد) مثلما اعتقدت إسرائيل الشرقية بأن جنوب العراق احتياطيها الاستراتيجي في غزو العراق وإلحاقه كولاية إيرانية، لكن تفجير انتفاضة الأول من تشرين عام 2019 قلب كافة الموازين داخل العراق لصالح الشعب العراقي وثورته التحررية، وفي مقدمة ما حققته هو إعادة الغزاة الإيرانيين والأمريكيين إلى المربع الأول بعد أن نهض العراق واحداً قوياً بشعبه المتمسك بعراقيته وعروبته ورافضاً الطائفية رفضاً حاسماً ومناضلاً من أجل عراق مستقل وحر وسيد، ويتمتع شعبه بثرواته ويعيش بسلام وأمان مثل باقي الأمم.

فما الذي ترتب على الانتفاضة بعد عام من انطلاقتها الجبارة؟

1-إن أهم إنجاز لثورة تشرين هو أنها أطاحت بخطة التقسيم الطائفي العنصري للعراق، وهي أخطر الخطط التي وضعت وجرى العمل عليها طوال عقود، وكان غزو العراق قد وضع التقسيم في قمة أهدافه ولذلك نشر الفوضى والكوارث من أجل إجبار العراقيين على الاقتناع بأن التقسيم هو أقل الشرور ضرراً، فالثورة كانت ثورة (نريد وطن) في تعبير واضح عن أن تحرير العراق واستعادته هو الهدف المركزي لها، فالوطن طبقاً للثوار غزته إسرائيل الشرقية بالتوافق مع أمريكا عندما انسحبت، وكانت تلك الفرصة التاريخية لإسرائيل الشرقية للانتقام من العراق لأنه مرغ أنف نظامها في وحل الهزيمة وأجبر قائدها على تجرع سمها، وتحقيق هدفها الأعظم وهو غزو العراق وبثرواته وبسواعد أبنائه تتوسع الامبراطورية الفارسية.

الثورة بهذا الإطار أسقطت التقسيم بتجريد إسرائيل الشرقية من ذخيرتها الاستراتيجية الأهم في العراق، وهي جنوب العراق، الذي اعتمدت عليه في غزو العراق كله تدريجياً، فتطهير الجنوب وانتفاضته الشاملة ضد الغزو الإيراني ما هو إلا إعلان عملي ورسمي عن سقوط مخطط تقسيم العراق وتفريسه وإنهاء هويته العربية.

لذلك نؤكد مجدداً أنه حتى لو لم تنجز ثورة تشرين أهدافاً أخرى فيكفيها إنجازاً عظيماً استراتيجياً وقومياً إسقاطَ خطة تقسيم العراق من قبل أمريكا وجعله ولاية تابعة لإسرائيل الشرقية. فهي إذاً ضربة مزدوجة لكل من إسرائيل الشرقية وأمريكا في آن واحد.

2-ومن مميزات ثورة تشرين أنها وفرت كافة الأسباب والدوافع للنصر مهما تبدلت الظروف وتعقدت لأنها كشفت عن تلاحم الشعب بغالبيته الساحقة وإصراره على التحرر الوطني، من هنا فمهما كانت نتائج الثورة في هذه المرحلة فإن النصر آتٍ لا محالة.

3-كشفت ثورة تشرين عن أن الطائفية كانت مجرد فتنة بين نخب سياسية ولم تنغرز في عمق الناس والمجتمع بدليل أن الملايين من جنوب ووسط العراق قد خرجت تهتف باسم العراق الواحد العربي وضد تفريسه وغزوه، وبقوة الملايين وضعت النخب الطائفية شيعية وسنية في زاوية الانكشاف والسقوط ما أجبرها على ممارسة أسلوب قمعي متطرف تمثل في قتلها حوالي ألف ثائر وجرح ما يزيد عن ثلاثين ألف ثائر آخر، وهي أرقام مفزعة في ثورة شعبية واحدة في العراق، وذلك يؤكد عمق الطابع الوطني لثورة تشرين وطغيانه الحاسم على كل الأهداف الأخرى.إن الاجماع الشعبي بقيادة ثوار تشرين على أن إعادة الوطن هو الهدف المركزي لها كان رسالة بالغة الوضوح لكل من أمريكا وإسرائيل الشرقية تؤكد فشل مخططهما المشترك لإنهاء العراق القوي والسيد.

4-ثورة تشرين توجت نضالات الشعب العراقي ومقاومته للغزو الأمريكي والذي أجبر أمريكا على الانسحاب بذل الهزيمة بعد أن تكبدت خسائر بشرية زادت على خمسة وسبعين ألف قتيل أمريكي طبقاً لإحصاءات منظمات أمريكية غير حكومية، إضافة لخسارة ما بين 3 و7 تريليون دولار أمريكي طبقاً لجهات أمريكية، منها الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد جوزيف ستيجلز الذي قال: "إن الرقم الذي توصلنا إليه أكثر من 3 تريليونات دولار". بينما أكد تقرير جامعة براون الأمريكية أن إجمالي التكلفة يبلغ 3.2-4 تريليونات دولار على الأقل، ووصل هذا الرقم في تحديث للتقرير في عام 2013 إلى 6 تريليونات دولار (ويكيبيديا)! وهذه الأرقام مذهلة بحجمها غير المسبوق في كل حروب العالم قديماً وحديثاً، والقسم الأكبر من هذه المبالغ تسببت به المقاومة العراقية الباسلة.

5-ولكن استخدام أمريكا لإسرائيل الشرقية بعد انسحابها لإكمال خطة تدمير العراق وإنهاء هويته الوطنية، بالإضافة لإطلاق داعش وقبلها القاعدة أضعف المقاومة العراقية بعد أن تحملت فصائلها تضحيات هائلة واخترقت بعضها بتنظيمات حولت الثورة المسلحة ضد الغزو الأمريكي إلى فتنة طائفية، لذلك كانت ثمة حاجة لإكمال الثورة بتطهيرها من اللوثة الطائفية التي ألصقت بها عمداً فكانت انتفاضة تشرين هي الرد العاتي والحاسم الذي أسقط الطائفية ومعها تدحرجت النزعات الانفصالية الأخرى إلى مزابل العار وبقي العراق واحداً قوياً متحدياً لا يهاب الموت بقوة شبابه ثوار تشرين.

6-أدت ثورة تشرين إلى انكشاف حقيقة أن إسرائيل الشرقية وكما أثبتت كافة حروبها لا تملك القدرة على خوض حرب خارج أراضيها لأسباب متعددة، ولهذا فإن المقاومة العراقية لم تهزم أمريكا فقط بل كشفت عن /وأكدت أن إسرائيل الشرقية ضعيفة جداً بدون ميليشياتها العربية فهي اعتمدت على ميليشيات عراقية ولبنانية ويمنية ولم تزج بجيشها وإنما اختارت نخباً منه فقط للتدريب والقيادة، لذلك فإن انهيار الميليشيات في العراق بعد ثورة تشرين وبفضل قوتها العاتية جرد إسرائيل الشرقية من العامل الأهم في غزواتها وهو قوة العراق البشرية والمادية، وتجلى ذلك في تخلي ما بين 80 و90 % من قوة الميليشيات البشرية عنها بفضل انتشار الثورة وتجذرها وتحديها، وهكذا وصل الغزو الإيراني للعراق إلى طريق مسدود تماماً ولم يعد أمامه إلا انتظار الهزيمة المدوية قريباً بنجاح ثورة تشرين في كنس آخر بقايا الغزو الإيراني للعراق.

7-وفي ضوء ما تقدم فإن ثورة تشرين لم تعد انتفاضة فقط بل تحولت إلى ثورة جذرية لأنها قلبت الأوضاع جذرياً وثبتت موقفاً تاريخياً وهو أنها امتداد لانتفاضات العراق السابقة من أجل التحرر الوطني، خصوصاً انتفاضة المقاومة العراقية ضد الغزو الأمريكي، وهي لذلك حددت أهدافها بوضوح وفي مقدمتها الإزالة التامة للوضع الفاسد والتابع الحالي، وإقامة بديل وطني ديمقراطي تقدمي يمثل إرادة الشعب العراقي في الحرية والكرامة والعيش الكريم والاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية والمحافظة على الهوية الوطنية للعراق وانتمائه القومي، وبدون هذه الأهداف الاستراتيجية لن يكون هناك تغيير حقيقي في العراق وستستمر لعبة الخداع والتضليل المخابراتية لإفقاد الشعب بوصلته وإنهاكه بمسلسل أزمات ما أن تنتهي واحدة حتى تفجر ثلاثة، وهكذا يظن مهندسو الألعاب أنهم سينهكون الشعب ويجبرونه على الاستسلام لبديل مُحَسَّن ولكنه يتغذى من نفس النبع الذي تغذى منه المالكي والجعفري وعادل وحيدر.

فهي ثورة لأنها امتداد طبيعي لكل ما شهده العراق منذ الغزو وحتى الآن وتتويج له، وعندما لا تكون التغييرات هكذا فإنها لعبة تضليل لابد من فضحها وإسقاطها بثورة دائمة تتجدد بلا توقف بعد أن امتلكت ديناميكياتها الخاصة والتي تتقدم وتتعزز بدون التغذي من أي مصدر غير إرادة الشعب ورفضه للواقع الأكثر فساداً وتبعية.فثورة تشرين التي انتصرت في مقدماتها المذكورة ضمنت النصر الحاسم مهما طال الزمن لأنها أثبتت أن اللحمة الوطنية العراقية هي القوة الجبارة المحركة وأنها لا نظير لها في الصمود والتضحية وبعد النظر، وتلك هي شروط تتويج الانتصارات التي تحققت بنهاية الاحتلال الإيراني والأمريكي وعودة العراق لأهله ونهوضه بقوة أبنائه ليواصل طريق رسم تاريخ المنطقة والإنسانية كما كان عبر التاريخ وكما سيبقى.

[email protected]

1-10-2020

مجلة صدى نبض العروبة