إعلانات

البعث وأنا.... / صلاح المختار

ثلاثاء, 07/04/2020 - 23:56

 

الان مر علي 62 عاما وانا في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي فقد انتميت في النصف الثاني من عام 1958، ومولد البعث في نيسان فهو شهر مولدي البايويولوجي والهوياتي معا، وهذا الزمن الممتد ستة عقود واكثر يختزن دروسا وحقائق ثرية ليس من الصواب ابقاءها محبوسة في خزينة الضمير، خصوصا وان تلك الدروس تخص الناس عامة ، فقضاء 62 عاما في حزب ظاهرة تبدو في عالمنا غريبة لكنها في البعث عادية، ولكي نرى الابعاد الكاملة لتأثير 62 عاما من العمل في حزب من الضروري تسليط الاضواء على الافكار التالية :

1-عمري في الحزب اطول من عمري مع كل من عائلتي الاولى والموسعة وهي ابي وامي واخوتي واخواتي واعمامي واخوالي وابناءهم وبناتهم وعائلتي الاصغر المؤلفة مني ومن زوجتي وابنائي واحفادي،فقد قضيت مع عائلتي الاولى 35 عاما قبل زواجي،وقضيت مع عائلتي الاصغر حتى الان 43 سنة، والنتيجة ان عمري في الحزب اطول من عمري مع عائلتيي الاولى والاصغر.

2- اصدقاء الطفولة في الكرخ واصدقاء الشباب والكهولة في حي الشرطة وحي الجهاد قضيت معهم عقودا واجبرت على الابتعاد عنهم بعد الغزو ، فتكون النتيجة ان الزمن الذي قضيته مع اصدقائي لم يتجاوز الاربعة عقود ، بينما قضيت مع الحزب اكثر من ستة عقود.

3-بدأت رحلة العمل الوظيفي في الستينات وتوقفت بعد الغزو فخدمتي الوظيفية حوالي اربعة عقود ، وهي فترة اقصر بكثير من عملي في الحزب.

4-دراستي ابتدأت في عام 1950 وتوقفت مرارا بسبب الاضطهاد السياسي لكنني اكملت الجامعة في عام 1971 ونلت البكالوريوس في العلوم السياسية، ثم واصلت الدراسة في نيويورك اثناء عملي في الامم المتحدة فنلت شهادة الماجستير في المنظمات الدولية من جامعة لونج ايلند في عام 1985 وكانت اطروحتي عن (حق الفيتو في مجلس الامن) ،وقبلها نلت دبلوم اعلام من كلية التضامن في برلين في عام 1974، ومجموع وقت دراستي مع اوقات التقطع لايتجاوز 28 عاما ، وهو زمن قصير مقارنة بعملي في الحزب.

5-اذا حسبنا سنوات الدارسة 28 وما قرأت فيها يتبين ان قراءتي عن الحزب كانت القاعدة التأسيسية لثقافتي، واول ما قرات في السياسة وانا في الثانية عشر من عمري ( بماذا تتسم حركتنا ) و(وذكرى الرسول العربي) و(انقلابيتنا) للقائد المؤسس احمد ميشيل عفلق، زودني بها الرفيق الشهيد خالد ناصر جاري في سوق حمادة في الكرخ والذي كان يعدّني للعمل الحزبي منذ عام عام 1956 لانني كنت في الثانية عشر من عمري واخبرني انني لن انضم الا بعد بلوغي الرابعة عشرة، وهو ما حصل بالفعل. وقاعدة الثقافة البعثية قادتني بقوة لم استطيع مقاومتها الى القراءة العامة والسياسية ،واخذت في عام 1959 ادرس الماركسية لانها كانت سلاح الحزب الشيوعي العراقي الذي حاول انهاء البعث والحركة القومية العربية بالتعاون مع عبدالكريم قاسم فقرأت لماركس وانجلز ولينين وستالين وكنت ازداد اقناعا كلما توسعت دائرة قراءتي.

تنوعت قراءاتي واتسعت واسرتني الافكار الصعبة التي شكلت تحديا لي حرضني على فهمها فدرست مصادر الفلسفة والاديان والتاريخ والطب وعلم النفس والجيوبولتك ..الخ ومازالت مستمرا حتى الان تلميذا ادرس، فرحلة اكتشاف العالم والانسان عبر القراءة اطول من كل علاقاتي وهي تنفرد بأنها بعمر عملي الحزبي.

6- وبسبب حدة الصراعات السياسية في العراق والوطن العربي فقد تحددت علاقاتي الاجتماعية بقيود انتمائي الحزبي رغم انني كنت ومازلت مرنا جدا اجتماعيا واتجنب تغليب التأثيرات السياسية على علاقاتي الا عندما يحتدم الصراع عندها يكون انتمائي الحزبي هو الموجه بلا منازع.فالحزب حدد علاقاتي العامة تقريبا .

7- كافة اوجه الحياة تأثرت مباشرة بعلاقتي الحزبية فمن يتفرغ للحزب نفسيا وفكريا وعاطفيا يصبح حاسما في خياراته، فالوعي الطليعي لدي وهو ما يميز البعثي والذي تشكل عبر ستة عقود كان ومازال سيد حساباتي وسقف خياراتي ولهذا لم اجد نفسي اسير تردد عندما تكون هناك تحولات حاسمة، وكان سهلا علي اختيار الموقف الصحيح. وللحزب الفضل كل الفضل في تدريبي وخبرتي وثقافتي .

8-انا فخور كل الفخر بمسيرتي في الحزب بحلوها ومرها بصوابها واخطائها لانها مني وجزء من تاريخي ومن كان اصيلا لايتبرأ من تأريخه مهما كانت محطاته بل يميز بين الصالح منها والطالح فيرى تاريخه كله بدون حذف او تعديل او تزوير،وان حاول الانتقاء منه او تزويره فغيره يعرفه والاهم ان ضميره يعرف ان كل محطات تاريخه تعود له، وهنا مكمن فخري بكل تاريخي الذي عبرت كل مرحلة منه عن مستوى وعيي وادراكي، والطفل لايحاسب على قلة وعيه لكنه يحاسب على اخطاءه عندما يكبر دون ان يتعلم،وكلنا اطفال في التجارب البشرية مهما ابيض شعر رأسنا وحفرت اخاديد الزمن سواق وانهرا وربما بحارا في وجوهنا . والان وانا في السادسة والسبعين من عمري فخري ببعثيتي هو البديل عن كل طموح فبعد هذا العمل الطويل الغزير بالمعاني ليس ثمة جائزة لي اكثر من مشاعر راحة الضمير لانه نقي تماما .

وفي هذه المرحلة من العمر تنهزم طموحات المنصب بكافة مجالاته ويحل محلها طموح ان اترك بعدي كلمة طيبة لاحفادي ولغيري خصوصا للبعثيين الاتين من ارحام الحاضر، عبر تثبيت نتائج التجارب الحية فجهاز التوثيق العقلي الموضوعي لدي لكافة مراحل النضال وصل مستوى صفاء لم يسبق له مثيل وهي متعة لا تسمو فوقها متعة الا ادراك انك انسان سيطر على غرائزه ونزعاته وعواطفه، لذلك فتسجيل تاريخنا واحداثه ومنعطفاته بالنسبة لي اهم من كل شيء اخر لان الحزب حركة تاريخية ومن سيأتي بعدنا يجب ان يعرف الحقائق كما هي بدون تزويق او تحوير لاي سبب كان ،وانا شاهد حي على كافة تحولات الحزب منذ عام 1959 وحتى الان ، ومن يملك القدرات العقلية والفكرية والنفسية وثراء التجارب والقدرة الكتابية لتسجيل محطات النضال هو خير من ينقل للاجيال القادمة تجارب اجيال البعث السابقة لها .

9-اذا اكتفيت بهذه الحقائق التاريخية المتسلسلة بأرقامها من اكون؟ يخيل لي احيانا ان البعث لم يعد حزبا ولا ايديولوجيا ولا نضالا ولا تنظيما ولا وعيا متقدما فقط بل هو اقتراب من التمازج الجيني في كياني ، فلئن كان الانسان يتعرض لتشكل طبيعة ثانية لديه بعد عقود ثلاثة او اربعة من العمل في بيئة ما ،كما يؤكد علم النفس ، فانا قضيت في الحزب اكثر من ستة عقود اي ضعف الفترة التي تحتاج اليها الطبيعة الثانية كي تتشكل،منغمسا كل الانغماس في مسيرته ومتفاعلا بالكامل مع احداثه ومبادرا في كل مرحلة من مراحل نضاله، فكيف يمكن لجيناتي ان تكون بعيدة عن التأثر بانماط تفكيري الحزبي التي تواصلت ستة عقود؟

10-ولو تساءلت : كم قضى في الحزب رفاقي ابتداء من القائد المؤسس احمد ميشيل عفلق ومرورا بمن بنى الحزب من الجيل الاول والثاني والثالث،وما هي الازمات والكوارث التي واجهوها واقارنها بما واجهت وتعاشيت معه فالجواب واضح : ان القائد المؤسس مثلا قضى في الحزب منذ بدأ الاعداد لتأسيسه اربعة عقود ونصف تقريبا بينما قضيت حتى الان في الحزب 62 عاما ، وهذا يزيدني فخرا لانني تجاوزت كميا – ارجو الانتباه تجاوزت كميا- بسنوات من اسسوا البعث واعدونا له ورحلوا قبل عقود بينما بقينا نحمل الرسالة امناء على اخلاقيات البعث اولا وقبل كل شيء، واهم من كل شيء، وفي مقدمتها ان نحفظ لكل رفيق حقه وتاريخه ومقدار تضحياته ولا نفرط بالبعثي الذي لم يعد حزبيا فقط بل صار ذخرا عقائديا بعد عقود النضال وتجربته وامتحانه، وبما ان البعثي المتكون هو ذخيرة الحزب، وليس الحزبي الذي مازال في طور التجربة حتى لو قضى نصف قرن ،فان من مميزاته انه حريص كل الحرص على البعثيين الاخرين ولا يستسهل ابعادهم.وعندما تجد رفيقا من الكادر يستسهل ابعاد رفاقه البعثيين فتأكد انه يرتد للنزوات الخاصة ويثبت انه لايعرف ان الحزب بديمومته يعتمد على البعثيين وقبل اعتماده على الحزبيين .

يقينا كل اليقين ان كياني قد تشكل نهائيا وتقولب الى الابد وفقا لعقيدتي ورغم انني احمل فوق كتفي 76 عاما فانني الان واكثر مما مضى محارب شرس عندما يتعلق الامر بمستقبل البعث، فتحية للشهيد خالد ناصر الذي كسبني للبعث،وتحية للرفاق عدنان القصاب وفائق الحاج توفيق اللذان اكملا مهمة الرفيق خالد ناصر في اعدادي للحزب مبكرا، وتحية للقائد المؤسس احمد ميشيل عفلق الذي اسس البعث، وتحية للقائد الشهيد صدام حسين مطبق الكثير من اهداف الحزب ومفاخره ، وتحية للرفيق عزة ابراهيم الامين العام للحزب وقائده ومظلة البعثيين والدرع الحامي لهم من نزوات الحزبيين، وتحية لكافة الرفاق الاحياء والاموات ،والتحية الاكبر للجيل القادم من البعثيين الذين سيجدون البعث محصنا بأمانة من عاشو تجاربة وساهموا ببناء كيانه وصدوا عنه غزوات الاعداء بمختلف عناوينهم .

[email protected]