إعلانات

بلاد المخزن وبلاد السيبة / إسحاق الكنتي

جمعة, 18/10/2019 - 03:18

ترتبط بعض الكلمات بعلاقات وثيقة حتى لا يفهم معنى الواحدة إلا مصاحبة للأخرى؛ قد تترادف الكلمتان وقد تتضادان. والعلاقة بين الثنائي الذي نحن بصدده علاقة تضاد تكاد تكون في وظيفتها علاقة ترادف! ذلك أن المترادفين يتضافران لزيادة إيضاح معنى ما لدى السامع الذي قد يكون أكثر إدراكا لمعنى أحد المترادفين دون الآخر، فإذا صادف أولا اللفظ الذي لا يدرك معناه بشكل واضح احتاج إلى اللفظ الثاني لزيادة الإيضاح أو لاكتساب المعنى ابتداء. وفي حالة التضاد يطرد المعنى الثاني المعنى الأول لزيادة الإيضاح بإيراد المعنى الذي لا يجتمع مع المعنى الأول في موصوف، ولكنه يرتبط به في الذهن لتحديد فاصل واضح القصد منه جلاء المعنى الغامض؛ وبذلك تتشابه الوظيفة اللغوية للمترادفين والمتضادين. فتأكيد المعنى بلفظ جديد، ونفيه بلفظ آخر هي عملية إيضاح بطرائق لغوية مختلفة. على أن في التضاد معنى زائدا على الترادف، إذ في التضاد ينضاف معنى جديد ليس مقصودا لذاته، وإنما الغرض منه تمييز المعنى المشكل كي يتضح أكثر.
وهكذا فإن اللفظ الشارح بالنقيض يستجلب معنى فائضا يستخلص منه نقيضه، فهو إذن ليس معنى بذاته، وإنما هو معنى لغيره، إذ لم يستجلب قصد إيضاحه، أو استيعابه إلا بقدر ما يسمح للسامع باستيضاح واستيعاب ضده؛ هو معنى أداة. ولذلك قالت العرب: " وبضدها تتميز الأشياء"، فالضد لا يتميز بذاته، وإنما يتميز بضده، فيصبح النفي إثباتا، والعدم ضرورة للوجود...
إذا طبقنا هذا التحليل على مصطلحي "بلاد المخزن وبلاد السيبة" وجدنا أن تضادهما الاصطلاحي، وليس اللغوي، أقرب ما يكون إلى الترادف. فأنت لا تستطيع أن تفهم المعنى الدقيق لبلاد المخزن، إلا إذا وضعته في تقابل مع بلاد السيبة. وحتى على المستوى اللغوي فإن التقابل، الذي يؤدي وظيفة الترادف، قائم بين المخزن والسيبِ. فالسيب، كل ما سيب وخلي فساب، والسيب العطاء، والمعروف ونحوه. أما المخزن فهو حرز للحفظ، للتحلية، بدل التخلية. والحفظ إمساك وحرص، عكس العطاء والمعروف. فبلاد المخزن هي البلاد المحفوظة بحرص، الموضوعة في حرز، وعكس ذلك بلاد السيبة، فهي سيب وخلاء من الحروز، هي بلاد العطاء والمعروف بدل الحرص والإمساك.
بهذا المعنى، فإن القدح يلحق بلاد المخزن، وينتفي عن بلاد السيبة. وهو الذي اختاره محمد عابد الجابري حين تعرض بالدراسة لمفهومي بلاد المخزن وبلاد السيبة، ولعله في ذلك تأثر بالأنثروبولوجيا الاستعمارية التي رأت في بلاد السيبة حيث تتمرد بعض القبائل البربرية والعربية على السلطة المركزية في المغرب، بلادا للحرية والثورة على "الغزاة."( ينظر عبد الرحمن المالكي: السوسيولوجيا الكولونيالية أمام ظاهرة الهجرة القروية في المغرب. عمران، العدد 17/5، صيف 2016.)
يقدم الجابري تعريفا للمصطلحين يركن إلى تضادهما، فيذكر باشتقاق بلاد المخزن من اسم المحل "مخزن" الذي "تخزن فيه أمتعة الدولة"، لكنه اكتسب معناه الاصطلاحي "منذ زمن عبد المؤمن، مؤسس الدولة الموحدية، علما على صاحب ذلك المخزن، أعني الدولة نفسها، وقد تكرس هذا الاستعمال زمن ابن خلدون، على عهد المرينيين،..."( محمد مزيان: المغرب في الأدبيات الكولونيالية الفرنسية ومشروعية الغزو والالحاق، عمران، العدد 17/5، صيف 2016).
مع المرينيين صارت وظيفة جمع الضرائب، إلى جانب السلطة "المخازني" القهرية من أهم مميزات المخزن. "ومعلوم أن المناطق التي لم تكن تمارس فيها سلطة هذا "المخازني"، وبالتالي لا تجبى منها الضرائب، كانت تسمى – على الأقل في القرن الماضي وإلى أوائل هذا القرن – "بلاد السيبة"، في مقابل بلاد المخزن." ثم يعرف الجابري السيبة بأنها "وضعية اللادولة، حيث السلطة لشيوخ القبائل،..."( الجابري، محمد عابد: دولة المخزن، وإمكانية الإصلاح (من وجهة نظر ابن رشد وابن خلدون))
تلكم هي الحدود الأولية لمصطلحي "بلاد المخزن" و"بلاد السيبة" في المجال التداولي الذي ظهرا فيه أول مرة. وهي حدود تظهر أن المقصود ببلاد المخزن المجال الجغرافي الخاضع لسلطة مركزية لها مقومات الدولة. وأظهر تلك المقومات جباية الضرائب واحتكار العنف. أما بلاد السيبة، فهي على العكس من ذلك مجال جغرافي أعلى تنظيم للسلطة فيه لا يتجاوز القبيلة، وليست فيه جباية منتظمة، والعنف فيه مشاع. ومن المعلوم أنه ليست هناك، في المغرب الأقصى، حدود ثابتة بين مجال المخزن، ومجال السيبة؛ فكلما قويت شوكة المخزن اتسعت رقعة الجباية واحتكار العنف، وضاق مجال السيبة. وكلما ضعف المخزن اتسع مجال السيبة.
إذا انتقلنا إلى المجال الجغرافي المعروف اليوم بموريتانيا، صعب علينا إضافة أي من المصطلحين إليه؛ فلم يعرف سلطة المخزن، ولم يعد "بلاد السيبة" منذ ظهور الإمارات العربية والممالك الإفريقية. فبقيام الإمارات والممالك تم تجاوز "سلطة شيوخ القبائل" إلى سلطة أعلى منها، قائمة على تنظيم أكثر تعقيدا، متجاوزا للقبيلة إلى تنظيم عدة قبائل يخضع شيوخها لسلطة الأمير.