إعلانات

إلى أين تخطو حضارتنا العربية الإسلامية بين الحضارات الكونية؟

خميس, 09/05/2019 - 03:17

تلخيص لمحاضرة د. محمد أحظانا حول التسامح والتي ألقيتأمام أساتذة وطلاب مركز الموطأ للشيخ عبد الله بن بيه في أبو ظبي.

 

إلى أين تخطو حضارتنا العربية الإسلامية بين الحضارات الكونية؟

شهر رمضان شهر عظيم، وقعت فيه أحداث جلى، تاجها نزول القرآن العظيم فيه، وغرتها معركة بدر الكبري التي هزمت الوثنية، وغاربها معركة القادسية التي كسرت امبراطورية الفرس المجوسية، وسنامها فتح الأندلس، وكفلها معركة الزلاقة ومعركة عين جالوت ضد المسيحيين الغلاة والمغول المتوحشين.. ولذا  فعلينا دائما إذا حل رمضان المبارك ان نفكر في الأعالي بأقصى طاقتنا الذهنية، ومن ذلك أن ننشط تفكيرنا الكلي في حضارتنا العربية الإسلامية.
وأرى هنا أن علينا الآن أن نتساءل عن الوجهة الحضارية الفعلية لحضارتنا العتيدة في مطلع القرن الحادي والعشرين؟

لقد كنت أفكر منذ بعض الوقت في طبيعة الوجهة الفعلية لهذه الحضارة التي أنتمي إليها، لأسباب عدة من أهمها إحساسي بحجم التحدي الذي تواجهه من داخلها، و الضغط الذي يواجهها من خارجها؛ فهي تواجه نفسها من جهة وتواجه الآخر من جهة أخرى.
وسأقدم في هذا العصف الذهني أطروحتي المبدئية حول تشخيص وضعنا الحضاري، القائم، ووجهة حضارتنا حسب وتيرة تصرفنا حيالها، متلمسا في الأثناء بعض المسارب للخروج من إكراهاتها الركامية التي تثقلها.
وانوي أن أقوم لاحقا، من خلال تحرير كتاب، ببسط هذه الأطروحة، التي برقت في ذهني فأضاءت بعض إشكالات التفكير التي لازالت لدي، حول أزمتنا الحضارية القائمة.

منطلقات الأطروحة
المنطلق الأول: تشخيص مجمل مفاده
أن الحضارة العربية الإسلاميةحضارة متخلفة ماديا ومعنويا عن سواها من الحضارات العالمية لكنها مع ذلك طموحة في اصلها.
المنطلق الثاني
أنها حضارة تستطيع أن تتجاوز وضعها الحالي عندما تراجع بعض عاداتها الركامية التي قادتها إلى التخلف، وأول تلك العادات التخلي بإصرار عن التفكير المتفتق والإبداع الذي نشأت عليه من أول يوم.
المنطلق الثالث
أن هذه الحضارة احتفظت بشجاعتها، رغم كل شيء، ولم تفقد ثقتها في جوهرها الحضاري، ولذا لاتزال تقاوم كل من يعتدي عليها ماديا ومعنويا، بأي وسيلة وباي طريقة؛ صحت أم أخطأت، فجوهر حضارتنا هو الشجاعة والثقة في النفس رغم الانهيار المعرفي والمادي والتنظيمي الذي تعانيه.
 المنطلق الرابع
أنها حضارة لايعوز الذكاء أفرادها ولا مجاميعها البشرية من أجل الإبداع، ولكنها مرهونة لنمط سلبي من إنتاج القيم المادية والمعنوية يرفض قبول التميز ويخاف النجاح.
المنطلق الخامس
أن لحملتها البشريين علاقة سيئة بقيمها الإيجابية، حيث يتعاطى المنتسبون إليها مع منظومة القيم الموجبة لسانيا لافعليا. فالقيمة العملية والأخلاقية تتحول عندهم إلى قيم بلاغية طنانة، لاعلاقة لها بالالتزام التطبيقي العملي.
المنطلق السادس
أن بيئتنا الحضارية العميقة في وضعها الحالي بيئة حمضية طاردة
للعلم ومتعلقاته، جاحدة لنعمة العقل وتجددها.
المنطلق السابع
أن كل هذه العيوب متعلقة بتعاطي الإنسان الحالي منهجيا مع مجاله الحضاري، لا في الطبيعة. الجينية لحضارته، رغم ماران دون نواتها الإبداعية منعوائق مثبطة..
المنطلق الثامن
ان الإنسان المنتمي لهذه الحضارة عندما يغير مناهجه ويكيفها مع البذور الإبداعية في حضارته فإن كل الأمور ستتغير في وضعها الكلي، وتصبح هذه الحضارة قادرة على الانطلاق.
فماذا بعد؟ 

كليات استنتاجية حول فهم الإنسان لثابتة المصلحة

حسب ما اتضح لي، فقد دار وعي الإنسان منذ وجد على ظهر الأرض حول فهم مصلحته، فكل الشرائع والأديان البشرية كانت فهما من الإنسان لطبيعة مصلحته وتكييفا لها مع محيطه. وقد جاءت الأديان السماوية وفهومها البشرية، وإبداعات الفلاسفة والمصلحين من أجل إعادة توجيه وتهذيب مسارات التجربة البشرية التي بدأت متعثرة، واتتهت إلى رسم معالم التكيف مع المحيط البشري والطبيعي، بما يضمن مصلحة الإنسان..
وعليه فإن المصلحة وفهمها هما المدار الأعظم لتفكير البشر من فجر وجودهم إلى اليوم. وقد مر هذا التفكير أو الوعي بالمصلحة - حسب ما أري دائما- بأربع محطات كبرى:
المحطة الأولى: محطة وعي الإنسان بمصلحته الذاتية ضمن المجال الثنائي الأضيق، وقد ترتب على التكيف مع هذا المجال بناء الأسرة الصغيرة الثنائية، ثم الأسرة الكبيرة، ثم القرية، ثم القبيلة والعرق، والحوز الترابي لمجموعة من القرى.

المحطة الثانية: محطة الوعي بالمصلحة الضامنة للملكية الخاصة والحمى، والتداول الأوسع للمصالح التفصيلية. وقد أنجب هذا الوعي نسق المجتمع المؤلف من قوميات وأعراق، تستطيع ان تضمن المصالح لمنتسبيها ضمن المدينة المنظمة حسب قانون تواضعي مكتوب أو منطوق، يتشارك في الحمى ويضمن التداول المركب بين الأفراد والمجموعات معا.
المحطة الثالثة: محطة الوعي المشترك بالمصالح الواسعة،
وهي التي انتجت أمما وحضارات، تالفت من مجتمعات تجمع بينها لغة ودين مشتركان اوعدة لغات وأديان متقاربة، ورقعة ترابية أوسع من وطن الدولة والمدينة. وهذا الوعي هو الذي انتج الحضارات.
المحطة الرابعة: محطة وعي الإنسان بمصلحته تجاه الكون باعتباره ركنا من أركانه ومكونا من مكوناته. فهو يتموضع من الكون تموضعا يتهدده الخطر.. وأول خطر يتهدد رعاية مصلحة الإنسانية هو ذكاء الإنسان المنفلت من قيود الالتزام الفطري بضمان بقائه كريما معززا على ظهر الأرض.
هذه المحطة الرابعة هي التي يضع فيها التفكير البشري حول المصلحة الكبرى للإنسانية مرجعه اليوم بصيغ مختلفة.
وللأسف تختلف موافق العقول البشرية منها، فبينما يرى البعض أن نهاية التاريخ في الحالة الحضارية وبالتالي يرى صراع الحضارات حتمية تاريحية؛ يرى بعض آخر- ومنهم كاتب هذه السطور- أن مصلحة الإنسان كونية مشتركة، لأن مصيره مشترك، فالأسلحة ذات التدمير الشامل لا تقتل أهل حضارة بعينها وحدهم، وإنما تستطيع أن تقتل كل أبناء الحضارات البشرية بمن صنعة السلاح المدمر، مع أن ثمة من يحلم بغير ذلك. وتحدي الجوع لايقتل منتسبي حضارة دون أخرى، والتفسخ البيئي لايخص حضارة عن حضارة.
وبالتالي فبما أن الخطر الكوني والإنساني متشابه الأثر على كل البشر فالمصلحة تجاهه متشاكلة لدى كل البشر كذلك.
فماذا يترتب إذن  على هذا الوعي الكلي بمصلحة الإنسان على الأرض؟
لقد ترتب عليه وجود تشكيل بشري عام، من أهدافه رعاية مصالح الإنسان، تنظمه قوانين عامة، وتقاطعات كبرى في المصلحة وتطبيقها عبر العالم. لكن هذا الجهد ووجه بتداخلات أخري، من بينها استخدام الذكاء من أجل تكريس القوة والسيطرة على الآخرين، وكان ذلك ضمن دوائر أضيق من دوائر الحضارات أحيانا كثيرة، فنشأ تحت عباءة التجمع البشري المقترح والمطبق في هيئات جامعة مفهوم وواقع الدولة الكبرى والصغرى والبينية. ثم نشأ مفهوم الحضارة المركزية والحضارة الهامشية، وكذا الدولة الدائمة العضوية، والدولة المؤقتة العضوية، بل والدولة غير العضو ضمن المنتدى التنفيذي العالمي.
وعلى كل حال ثمة دعوات حية لاتزال تجالد دفاعا عن فكرة شراكة الإنسان من حيث هو إنسان في الحياة الكريمة على أرض الله.

وجهتنا نحن المسلمين ضمن السياق العام للحضارات
سأنطلق من مبدأ اقترحه أومسلمة تاريخية الطابع، إجرائية الأداء وهي أن من لايتقدم حضاريا فهو يتأخر حتما. لماذا؟ لأن كل من حوله يتحركون وهو ثابت في مكانه.
أما إذاكانت الشخصية الحضارية تعكس الاتجاه في أغلب. أفرادها وتجمعاتها فالتأخر يصبح تراجعا.
وإذا كانت أغلب الحضارات اليوم تتصارع: إما حول تبوئ مكانة في مسرح المستقبل؛ وإما من أجل احتكار كل مقاعده دون الآخرين؛ فإن جهود أغلب قوانا الحية النشطة نحن المسلمين توجه نظرها لتفكيك المحطتين السابقتين اللتين تشكلتا فينا قبل تشكل الحضارة العربية الإسلامية، وهمامحطتا تشكل الوعي بالمصلحة الفردية والجماعية.
وسأضرب مثالين على هذه الرؤية التفكيكية المطبقة الخاصة بنا:
المثال الأول: في استبعاد العقل من دائرة حل المشاكل الذهنية والعملية. لأنه عاجز عن 'إدراك كل شيء' حسب مرجعياتنا السائدة.
ورغم أن هذه المقولة، تقدم حقيقة لاغبار عليها، وهي أن العقل ليس قادرا على إدراك كل شيء، لأنه نسبي بالطبع.؛ إلا أننا نقرأ هذه المقولة قراءة أخرى وهي أن العقل عاجز عن إدراك أي شيء. وهذا وجه سيء من وجوه فهم المقولة و هو ما احتفظنا به عمليا في منهج توجيه الأذهان وملكات الحكم عندنا، وتطبيق التصورات.
خلاصة العمل بمقتضى هذا الفهم أنه مادام العقل عاجزا عن إدراك بعض الأشياء فهو إذن، عاجز عن إدراكها كلا. وهي أغلوطة التفافية فعالة الأثر.
هذا هو المعمول به منهجيا رغم إنكار البعض له خطابيا.

المثال الثاني: فكرة التكفير الجماعي والفردي
هذه الفكرة، حسب تاريخنا الاجتماعي الحديث، انقسمت في 'أيديولوجيا التكفير' إلى تكفير اجتماعي وآخر فردي.
فأما التكفير الجمعوي فملخصه في 'جاهلية المجتمع'، وعندما يكون المجتمع الإسلامي جاهليا فهو كافر، وبالتالي تجب محاربته بموجب تطبيق آلية قياس الشاهد على الغائب، والشاهد هو المجتمع الحالي، والغائب هو مجتمع الملأ من قريش، في عهد الجاهلية.
والنتيجة هي ضرورة التوجه، حسب هذه الرؤية، إلى تفكيك المجتمع الإسلامي القائم لإعادة بنائه على أساس أن 'لا حاكمية إلا لله'.
وتطرح هذه الحاكمية إشكال التعجيل والتأجيل عند تطبيقها بإلحاح، فقد ورد في محكم التنزيل: 'ويوم القيامة يحكم بينكم'.. وردت هذه الحاكمية في صيغ متعددة وسياقات مختلفة، وموارد متنوعة مقرونة بالآخرة، قد نبسطها في مقام آخر غير هذا.
إن التلاعب التأويلي الأيديولوجي بمفهوم الحاكمية أدى إلى تعجيل الحاكمية المحورية منهجا واعتقادا لتصبح حاكمية بشرية، فأصبحت حاكمية الله المؤجلة إلى يوم القيامة ملكا لأحد أطراف تأويل النص المرجعي في هذه الدنيا، وهذا الطرف هو نفسه 'الفرقة الناجية' من بين واحدة وسبعين فرقة ضالة إلا هي.. فماهي النتيجة إن لم تكن تناحرا فكريا حول التأويل، يترتب عليه تناحر جسدي حول التطبيق؟ ولا أحد رفع صوته منا ليقول بكل جرأة: فلتكن إذن الحاكمية لله، وليترك كل واحد منا للآخر مجال رؤيته في تأويل النص على الأسس المتعارفة لذلك.. إن تأويل آية: (وهديناه النجدين) المحكمة كان مركبا من مراكب نشوء الفرق الكلامية الإسلامية، في الجبر والاختيار، وبالتالي فلا نص إلا ويكمن أن يقرأ قراءات تأويلية متعددة بتعدد الأفهام وتجدد المهاد العقلي، خاصة بالنسبة لأمة معجزتها في الكلمة، وتحمل رسالة خاتمة.
نعم، إن الحاكمية لله. ولذا قال الإمام علي كرم الله وجهه إنها كلمة حق، لكن لما أريد بها تكفير طائفة من المسلمين من طرف طائفة الخوارج قال: لقد أريد بها باطل؟ ولما طلب ان يكفر مخالفيه صنفهم في دائرة البغي لا في دائرة الكفر. فالباطل هو احتكار الحاكمية في فهم من الأفهام دون غيره، والعمل بذلك في كل المستويات التطبيقية. إنه اجتهاد قاصر لا يستحضر عفو الله على من لايستحق في نظر بعض الناس، ومغفرته لمن شاء، وهدايته لمن أراد، بعد ضلال مبين..
إن تلك الرؤية التكفيرية هي نوع من الإلزام الحيني بالعمل المحسوس في وقت ما، دون فتح المجال على الممكن من هداية ورحمة وموهبة إلهية مستقبلا.. وتضخيم ما هو غائب حسيا عند صاحب هذا الفهم الحرج، الذي لا يستحضر حديث: (إن احدكم ليعمل بعمل أهل الجنة... إلى آخر الحديث الصحيح المعروف.)
إن تعجيل الحاكمية الإلهية، ومصادرتها على المطلوب واحتكارها في فهم تأويلي معين، و الحكم بجاهلية المجتمع على أضواء ذلك على أفراد للمجتمع، كانت علامات فارقة من الارتكاس عن الوعي الحضاري العربي الإسلامي، وتنكيسه ارتداديا نحو جدلية الوعي الاجتماعي وملابساته، فهو وجه من وجوه تراجع أبناء الحضارة العربية الإسلامية من المحطة الثالثة من الوعي إلى المحطة الثانية.
أما التكفير الفردي فهو تراجع أبعد نجعة إذ يعيد الوعي إلى المحطة الأولى من الوعي البشري. محطة تشكيل النواة الأسرية والقرية، فالشخص عندما يقتنع عقديا أن أباه كافر أو أمه أو إخوته كذلك، ويوقن أنه هو المالك الشرعي الوحيد لحقيقة العقيدة و تأويل النص الديني الشرعي المنزل، وفهمه، والسؤول عنتطبيقه؛ فإن موقفه من أسرته سيكون الحكم عليها بالكفر. وبالتالي فهي ستندرج عنده في حكم الردة، و الكفر بالله. وهو إن لم يقتلها ماديا فهو يحكم عليها بالقتل معنويا، ولابأس عنده من أن يقتلهاغيره ماديا، خاصة إذاكان ذلك المنفذ ممن يملكون 'كل الحقيقة وسائر الحق، وكل توفيق الفهم'. ولاحق لغيره في ادعاء جزء من فهم الحق والحقيقة، رغم الاشتراك في خدمة نفس الحقل الدلالي وفضاء التلقي والتمثل من طرف كل المنتسبين للحضارة العربية الإسلامية من أهل القبلة.
لقد فهم أبو حامد الغزالي هذا المنحى عندما حاور الفكر اليوناني بحجج أهل القبلة، فرغم أنه أشعري المذهب الكلامي حاجج برأي كل الفرق الإسلامية منطلقا من مفهوم أهل القبلة، وهم كل من يوجه وجهه إلى البيت ليؤدي الصلاة بالصورة التي أولها بها مذهبه، ويثبت وجود الله ووحدانيته وقدمه وقدرته وإرادته، مهما اختلف مع غيره في تأويل صفات الافعال. 
إن الأمر إذن، يتعلق في ايامنا بالرجوع من محطة الشراكة الحضارية إلى عدم الشراكة الاجتماعية، ثم عدم الشراكة الأسرية.
وعليه لم تنهض حضارتنا تحت اية راية من رايات أهلها ولاغيرهم لأن فهمنا لمسار الوعي البشري منكس.
وأتصور أن أغلب الأيديولوجيات التي سادت في مجالنا الحضاري أيا كان عنوانها التفصيلي دارت بفكرها وتطبيقاتها حول 'التكفير الأيولوجي' الأحادي، الارتكاسي بدرجات متفاوتة، إن لم يكن تكفيرا ديني العنوان.
تلك هي وجهتنا الحضارية الفعلية رغم بعض مظاهر التوجه بالنظر إلى الأمام، والمتصور لدي أن الخطوات الفعلية لمنتسبي حضارتنا النشطاء تتحرك بنا إلى الخلف، لا إلى الأمام نحو المحطة الرابعة، التي هي محط أنظار الحضارات الناهضة. محطة الإنسانية في نسق الكون.

د. محمد أحظانا