إعلانات

أول موظفة موريتانية

أربعاء, 27/06/2018 - 00:15

البراء محمدن 

ظل النظام المحظري هو التعليم الوحيد في هذه البلاد دون منافس حتى دخلها المستعمر بداية القرن العشرين حاملا معه المدرسة النظامية الحديثة، لكن في ثوبها الفرنسي البحت، ولهذا باشر المستعمر فور دخوله إنشاء مدارس كان أولها مدرسة أبي تلميت (1905م) وتتابع افتتاح المدارس واحدة تلو الأخرى، وسعيا لاختراق المجتمع أدرجت اللغة العربية ضمن موادها، لكنها لم تسمح بتعليم السيرة النبوية لما قد تثيره من جهاد ضده. وقد واجهت معارضة شديدة؛ وخاصة من طرف بعض العلماء ومشاييخ المحاظر ففي السابق كان إرسال الأطفال الذكور إلى المدرسة التي كانوا يطلقون عليها "لكور" (تصحيف لكلمة Ecole) من المحرمات أحرى أن ترسل البنات إليها. وقد سال حبر كثير بيّن انقسام الآراء حوله بين مؤيد ورافض للمدرسة. وسأعرض نماذج من آراء الشعراء والفقهاء حول الموضوع. 
يقول محمد الأمين بن محمد مولود بن أحمد فال:
جاز تعلم خطــوط الكـفره ~~ لبـالغ من الملاح المهره 
ومنــعوا إسلام نجلَهُ الأبِ ~~ لكـــافر يبعثه للمكتب 
وفي هذا السياق نفسه يقول أحمدو بن احمذيه معبرا عن الارتياح الذي ساد قبيلته بعد إرجاع معلم كان معينا للتوجه إليهم:
الحـــمد لله على ما نفسـه ~~ من الكروب وسقوط المدرسة 
مدرسة الروم عن أبناء الحسن~~ وقد رآها غيرهم أمرا حســن 
وهم يرونـــها بعين الأرمد ~~ ليس بهــا هاد ولا من مهتد 
والحسنيون على استــحسان ~~ ما قال فيــها "يوسف النبهاني".
مشيرا إلى كتاب "إرشاد الحيارى في التحذير من مدارس النصارى" وهو كتاب ألفه يوسف النبهاني في شأن مدارس الطائفة المسيحية بلبنان نظرا لصبغتها الاعتقادية، فأسقطه هؤلاء على مدارس المستعمر بجامع الاسم (النصارى) على نحو تعوزه الدقة!
وبعضهم نظم سؤالا للعلماء على النحو الآتي:
هل فعل طه في فدا أسارى ~~ بدر يجيز مكتب النصارى
وهْو بقدر وسعهم والمملق ~~ من خطه عشَرةً يُحَذّقُ
ومما أجابه به معاصروه من العلماء قول أحدهم:
الصمت دون ما يخاف جُنَّه ~~ وقال في إضاءة الدجنه:
الحق لا يخفى على ذي عين ~~ والله أرجو عصمة في ديني.
وهو جواب لم يفلح التحفظ في إخفاء معارضته للتمدرس على أيدي المستعمر. 
وهناك فتاوى مهادنة للمدرسة لعل من أبرزها فتوى العلامة لمرابط محمد عالي بن عدود التي تراها من باب "الضرورة التي تقدر بقدرها وربما تكون فيها مصلحة دينية ودنيوية".
في هذا الجو الرافض لتمدرس البنات تربت المرأة العظيمة السيدة مريم بنت الكوري ولد عالي ولد أيبيه ولد سيد ولد ألمينا ولد الفالي ولد الكريم ولد بو ميجة ولد يعقوب الله ولد ديمان، لأمها فاطمة الزهرة بنت محمذ فال ولد أحمد ولد محمدن ولد المنيرة ولد الهديري ولد همظمظ ولد يدمسه خامس الخمسة المشكلين لحلف تشمشه.
كان والدها الكوري زعيما سياسيا ناجحا Chef tribal "سيفه" يتمتع باحترام الجميع، مطاعا في أبناء عمومته ومن يتبعو سلطته، تولى زعامة قومه مدة حياته أيام الاحتلال الفرنسي، وكان مع ذلك خطاطا مشهورا، وله من العلم والأدب والطرافة نصيب وافر. توفي - رحمه الله- 1941م بالسينغال. 
وُلدت مريم في شهر أكتوبر سنة 1940م في مدينة أبي تلميت فدعا لها أهلها الدعاء القرآني المشهور {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسانا وكفلها زكرياء} ولدت من أم وأب ينحدران من مقاطعة المذرذرة التقيا لقاء عجيبا، حيث وصلت الزهرة مع والدها الذي كان يعالج في مستوصف أبي تلميت، ولقيهما الكوري الذي جاء لمهمات سياسية تتعلق بما يعرف بالمكاتبة، فسعى في علاج الوالد وبعد شفائه تزوج الكوري بالزهرة وأنجبا مريم التي كان عمرها يوم وفاة الكوري تسعة شهور.
تولت والدتها تربيتها في أبي تلميت حيث استقر بها المقام، وبعد أن أكملت ست سنوات أرسلتها إلى عبدُ الله ولد الشيخ سيديا، وكان هو المشرف على تسجيل التلاميذ فسأل عنها فعلم أنها تنحدر من منطقة إگيدي فطلب حضور وكيلها لأنه يخشى تلك المسؤولية وما يترتب عليها، فذهبت إلى ابن عمها الذى حرص على تسجيلها عبد الرحمن ولد محمد الأمين - وهو يومئذ يرأس أولاد باب أحمد- فسجلها بالمدرسة وكانت هي التي تلت الكلمة الترحيبية بالرئيس ديگول (Le président de gaulle) عند زيارته لأبي تلميت سنة 1953م. 
بعد أن أكملت مريم المرحلة الابتدائية نجحت متفوقة في مسابقة دخول الإعدادية، إلا أن تلك المرحلة كانت تتطلب الذهاب إلى لگوارب حيث الإعدادية والثانوية، وذلك ما رفضته والدتها لضيق ذات اليد، فتوقفت عن الدراسة لتبدأ العمل في مستوصف أبي تلميت ولسان حالها يقول: 
الأم مدرسة إذا أعددتها ~~ أعددت شعبا طيب الأعراق 
أنا لا أقول: دعوا النساء سوافرا ~~ بين الرجال يجلن في الأسواق. 
قضت ما يقارب السنتين في مستوصف أبي تلميت، ثم جاء نداء حاكم أبي تلميت الفرنسي Saint-Pierre يطلب معلمين في كيهدي فلبت مريم ذلك النداء وكان طالع حظها غير مكترثة بالقيود الاجتماعية التي لا تخدم متطلبات العصر؛ فلا المجتمع قدم بدائل مقنعة للركون إلى قيوده تلك. 
كان ذلك سنة 1958م استلمت مريم ورقة توظيفها من الحاكم الفرنسي سان ابير فكانت بذلك أول موظفة من مجتمع بني ديمان. 
اتجهت مريم إلى مدينة سينلوي تحمل رسالة من حاكم أبي تلميت تفيد توظيفها وإعطاءها تذكرة للسفر في الطائرة التي تقوم برحلات أسبوعية إلى مدن الضفة، فأوصلتها الطائرة مدينة كيهدي لتباشر عملها الجديد معلمة. 
بعد ذلك ترقت في وظائف عدة سأذكرها تباعا تم تحويلها من كيهيدي مراقبة في ثانوية لگوارب مع بداية الاستقلال. وكانت من الجماعة التي عملت على تحضير جانب الاستقلال المتعلق بالتعليم في إطار ما عرف آنذاك ب L’ifan.
تتقن مريم ثلاث لغات هي العربية والفرنسية والإنگليزية، وهذا ما خولها أن تعمل في عدة قطاعات مختلفة. عينت عضوا في هيئتنا الدبلوماسية في دكار سنة 1965م بطلب من السفير السيد محمد عبد الله ولد الحسن، ثم بعد ذلك - في سنة 1971م- عملت بالخطوط الجوية الموريتانية الحديثة النشأة، قبل أن يتم تعيينها مراقبة عامة بثانوية البنات سنة 1975م، وبعد ذلك عينت في مكتب الدراسات والتوثيق التابع للرئاسة (Bureau des Etudes et de Documentation) كان ذلك سنة 1975م لتعمل لاحقا مع منظمة تسمى corps de la paix من سنة 1982م حتى سنة 1988م حيث قدمت استقالتها لتتفرغ لرعاية والدتها التي أصبحت بحاجة إلى الرعاية. 
عرفت مريم بالطيبة والألفة والبساطة والكرم، هذا مع الالتزام الكامل بتعاليم ديننا الحنيف. ما ريئت مريم يوما إلا وهي مشغولة بعبادة الله ومساعدة الناس والسعي في مصالحهم. 
كانت مريم تمثل المعلمة والمربية والأم الناجحة؛ فقد ربت أبناءها أحسن تربية؛ إذ كانت تمتلك عزما وقوة وإرادة، فناضلت في الحياة حتى قهرت سلطان المجتمع وتفوقت على نفسها فتبين لمحيطها أن المرأة في الواقع هي المدرسة الأولى التي تتكون فيها شخصية الإنسان، فالمجتمع الذي يترك أطفاله في أحضان امرأة جاهلة لا يمكنه أن ينتظر من أفراده خدمة صحيحة أو نظرا سديدا. 
كما أثبتت أن التربية التي كانت تتلقاها البنت في مجتمعاتنا منذ الطفولة تخلق منها امرأة تافهة، ولم يدرك المجتمع خطورة تلك التربية إلا بعد فوات الأوان؛ فالمجتمعات لا تعرف قيمة وأهمية الشيء إلا عندما تحرم منه أو نفقده. 
ما من امرأة أو رجل عظيم يصادفني في الحياة إلا وأجزم في الحال أن والدته أكثر عظمة منه. 
في هذه الورقة التعريفية حاولت أن أعرض لكم سيرة هذه العظيمة؛ فكل الشخصيات العظيمة رجالا كانوا أو نساء طواهم الزمن فبات من اليسير على التاريخ أن يقول كلمته في كل واحد منهم؛ أما مريم فلا زالت على قيد الحياة ولله الحمد، وهذا ما دفعني إلى أن أحاول جعلها هي تحدث القراء عن نفسها. لقد قمت بتلخيص مذكراتها مراعيا في ذلك تيسير الأفكار وإضافة شيء من رقة الأسلوب.