إعلانات

لمسة وفاء…”سَيِّدِي” و” “الديماني المبلوﮔ” و”المزارع” الشهم../الشيخ بكاي

خميس, 22/03/2018 - 02:58
بابا أحمد حم الامين

دخلت المدرسة متأخرا بداية السبعينات .. وفي السنة الرابعة ابتدائية اقترح علي مدير مدرسة الرشيد بابا أحمد ولد حم الامين رحمه الله الذهاب إلى نواكشوط ” التي تظهر شمس الثقافة فيها”.. تلك كانت عبارته..
لم يكن موجودا في الرشيد إلا الرابعة.. وهو يريد لي اختصار الزمن.. رشحني للشهادة الابتدائية “حرا” وأنا في السنة الثالثة ، ولهذا الغرض حولني إلى تيجكجه لمدة شهرين مستخدما علاقاته لأتابع مع تلاميذ السنة السادسة دروسا تساعد في إعدادي للشهادة.. وعدت بعدها إلى مدرستي لإجراء الامتحانات. ولله الحمد حصلت على الشهادة.. كانت الامتحانات أيامها امتحانات..
كان “سيِّدي” (وهو الاسم الذي يطلق عليه الكل، لا التلاميذ وحدهم)، يعطيني دروسا خارج الدروس الرسمية التي يعتبر أنها ليست مستواي، وكان يستعين بي في التدريس في “مدرسة ابن عامر” (قسم الرشيد في الشبكة التي أقامها المرحوم محمد الأمين الشيخ)..
عرفت معلمِين آخرين من أبرزهم اثنان كانا يدرسان اللغة الفرنسية.. الأول: أحمد سالم ولد التاه.. كانوا يصفونه في غيابه بـ (الديماني المبلوﮔ).. كان فعلا ذا أنفة وفضل، وثقة في النفس، أي المعاني التي تعني (البلـﮔه) في قاموس القوم أيامها…
كان يدرس بإخلاص، وتصل معلوماته بسهولة، رغم أن الكل كان يرتعد خوفا منه.. لم يكن يمارس الضرب بكثرة – وهو مباح في تلك الفترة، لكن كان التلاميذ يرون في عينيه (شعرة الخوف).. أخذ بمقدم شعر رأسي مرة.. وبعد الدرس طلبت من “سيدي” أن يفهمه أني حريص على أن أتعلم، وما معناه أني لست طفلا..
تعلمت من ولد التاه، ومنه انتقل إلي “جرثوم” “الكادحين”… بكيت كثيرا حينما اعتقل، وزرته في سجن تيجكجه حيث كانوا يطفئون أعقاب السجائر في جسمه..
لا أعرف الآن أين هو معلمي أحمد سالم.. التقيت به في التسعينات حينما كان نشطا في المعارضة.. وكان آخر لقاء لي معه بعد ذلك صدفة . قال لي إنه قادم من بلد خليجي…
معلم الفرنسية الثاني المرحوم محمد ولد عبدي “الشمسدي” كان أكثر انفتاحا واختلاطا بأهل الرشيد. ربما كان للجغرافيا دورها فهو من ولاية آدرار.. لم تأخذ علاقاتي معه طابعا رسميا ثقيلا.. كان أشبه بالأخ الأكبر.. درسني كثيرا خارج أوقات الدوام.. كان يفهم أني أستطيع استيعاب ما ليس داخلا في برنامج الفصل، وكان يفهم أيضا حاجتي إلى إعداد خاص.
ولأن معلمي مزارع “واحاتي” أصيل أخذ قطعة أرض،، وغرس فيها النخيل، وكان يزرع فيها الخضروات التي كنا نساعد في سقيها..
انتقل محمد من التعليم وأصبح ضابطا في الجمارك.. بقيت من نخيله “حفرة” من “احْمَرْ” ما تزال منتصبة إلى الآن في شموخ..
التقينا في نواكشوط وهو ضابط في الجمارك، وأنا مدير لتحرير جريدة الشعب… كتب قطعة أرضه في الرشيد باسمي هبة، لكنه وهو ابن الواحات أصر على أن يستوفي العقد الشروط… رحمه الله ..
وأعود إلى “سيدي”..
لم أقاوم اقتراح “مدير المعالي والسيادة والبذل” كما وصفته قصيدة كتبها أحد الذين عملوا معه في المدرسة.. كانت بي رغبة جامحة في التعلم، لكنني أيضا بدأت اشعر بالحرج وأنا أرى أن تلميذات “ابن عامر” بدأن يقتربن مني، ولم يعد لدي ما “أتمظهر” به أمامهن إلا ما رددت على مسامعهن مرارا. ومن بينهن صبايا من “جيلي”…..
قبل افتتاح السنة الدراسية استدعاني المرحوم بابا أحمد، وقال:” عليك الذهاب، لقد وقعت التحويل وأرفقته بتوصية” وناولني الأوراق مع ورقة أخرى هي شيك بريدي به خمسمائة أوقية.. كانت المرة الأولى التي تلمس فيها يدي شيكا…وكانت 500 وقتها مبلغا محترما..
أخذت الأوراق وطرحت الشيك.. وقلت في استياء طفولي داخلي حاولت السيطرة عليه: “سيدي أنا عندي /اباص/ ( تكاليف النقل)”..
وضع يده على كتفي وهو يبتسم ثم قال: “أنا في مقام الوالد، وسأغضب كثيرا حينما ترفض أن أقربك”.. ثم وضع الشيك في جيبي وقال: ” غدا ستأتي سيارة الطب وسأجد لك مكانا فيها” .. كانت السيارات أيامها لا تأتي إلى “الوادي” إلا نادرا..

كان فعلا ابن عم كريم وفي منزلة الوالد، لكنني أخذت مع الشيك “غصة” ضاعفها أن والدتي رحمها الله لم ترض عن قبوله…
وبدأت رحلة تعليمٍ الفضلُ فيها يعود إلى “سيدي”.. وكانت شهادة الباكالوريا التي حصلت عليها بعد أعوام أول ثانوية عامة تدخل الرشيد…
رحم الله بابا أحمد ولد حم الأمين