إعلانات

أسحاق الكنتي يكتب عن “إعادة تأسيس”..”مسح الطاولة” و “القطيعة”

اثنين, 04/12/2017 - 13:33
الكنتي

مفهوم إعادة التأسيس…
عرف التاريخ البشري محاولات “إعادة تأسيس” عديدة في المجال المعرفي والفكري، وفي مجال الممارسة السياسية. في المجال المعرفي تخبرنا المركزية الأوربية التي فرضت نفسها علينا مرجعية وحيدة، أن أرسطو هو رائد إعادة تأسيس المعرفة العلمية على قواعد العقلانية ضدا على الخرافة. ومنذ ذلك التاريخ استمرت “إعادة التأسيس” على يد أفذاذ أوربيين، يستأنف أحدهما على الآخر، حتى جاء ديكارت ليعيد “تأسيس” المعرفة على أنقاض “إعادة تأسيس” أرسطو نفسه، مستخدما مصطلحه السحري “مسح الطاولة”، ومؤسسا عقلانيته الخاصة. ثم جاء غاستون باشلار بمفهومي “العوائق المعرفية”، و”القطيعة المعرفية” ليؤسس عليهما “تكوين العقل العلمي”. استعار فرديناند دو سوسير المصطلحين ليدخلهما مجال العلوم الإنسانية، ويقول مؤرخو الفكر الغربي إن دوركايم ألمح إلى مفهوم “القطيعة المعرفية” في كتابه “قواعد المنهج السوسيولوجي”، كما يجدون صدى لها في كتاب ماكس وبر “رجل السياسة ورجل العلم”…
سيفوز الجابري رحمه الله بامتياز هذه الأدوات المنهجية الجاهزة ليعاير بها العقل العربي في محاولته “إعادة تأسيس” العلاقة بين ثالوث البيان والعرفان والبرهان في الثقافة العربية الإسلامية متغاضيا عن اختلاف البيئة المعرفية والحقل الدلالي، والمعاني الأولية، والثاوية، والحافة، للمصطلح في بيئته الأصلية وفي مهجره!!!
ما يهمنا من كل هذا الاستطراد هو كيفية توظيف مصطلحي “مسح الطاولة، والقطيعة المعرفية” في “إعادة التأسيس” التي نحن بصددها في موريتانيا. يبدو لنا أن مصطلح “مسح الطاولة” غير موفق في التعبير عن تجاوز الماضي. فالطاولة التي ستمسح تنتمي بالضرورة إلى الماضي، وما ستمسح به لا بد أنه من الماضي هو الآخر. وبذلك يتسلل شيء من هذا الماضي المراد تجاوزه ليمثل كعب أخيل في “إعادة التأسيس”. أما مصطلح “القطيعة المعرفية” فينبغي التعامل معه بصفته “إرادة ذاتية”(Une volonté subjective)، تنزع إلى أن تصبح “واقعا موضوعيا”(Une réalité objective)… ما يحدث حقيقة، بغض النظر عن دعاوى المفكرين، وطموحات العلماء هو أن أي معرفة، أو ممارسة جديدة طامحة إلى “إعادة التأسيس” تنتسب إلى هذا الحد أو ذاك إلى المعرفة أو الممارسة السابقة عليها. فأقصى ما تحققه إعادة التأسيس هو “قتل الأب” بالمعنى الفرويدي. لكن قانون الوراثة يظل يسخر من هذه “الجريمة”. تتم إذن عملية انتقاء واعية “لمساوئ الماضي” التي ينبغي التخلص منها لانجاز “إعادة التأسيس”، وفي نفس الوقت يتم التأسيس على “محاسن الماضي” بشكل غير واع أحيانا. ذلك أن المبالغة في تسليط الأضواء على المساوئ، والانشغال باستبعادها من المنظومة المعرفية، أو الممارسة الجديدة، يغيّب على مستوى الوعي، عملية التأسيس على محاسن الماضي. فتتأسس المعرفة أو الممارسة على وهم “القطيعة” مع ماض هو في الحقيقة نقطة انطلاقها…
حين يتعلق الأمر بما نحن بصدده في موريتانيا يتضح لنا أن الماضي المراد تجاوزه هو الجمهورية الأولى والجمهورية الثانية لكي نؤسس جمهوريتنا الثالثة. وهكذا فإن مساوئ الجمهورية الأولى التي ينبغي تجاوزها هي: همزة الوصل، الدكتاتورية، والتبعية. وتظل المحاسن العديدة الأخرى ثاوية في “إعادة التأسيس”. أما في الجمهورية الثانية فإن أبرز المساوئ التي لابد من محاربتها لتنجح “إعادة التأسيس” هي: الفساد، القمع، والغياب.
في الجمهورية الأولى لم تصلنا همزة الوصل إلا بغرب القارة بينما قطعتنا عن شمالها. وهذا ما يبرر إلى حد ما ارتياب البلدان العربية في استقلالنا؛ فقد رأوا فيه اقتطاعا لجزء من وطنهم العربي ليلحق بغرب إفريقيا. أما الدكتاتورية فقد تجلت في نظام الحزب الواحد، وتوقيع النواب على استقالاتهم لاستخدامها عند الحاجة، والعنف ضد الحركات الاحتجاجية. أما التبعية فقد مرت بثلاث مراحل مختلفة؛ عند بداية الاستقلال، حين كانت بوصلتنا غرب إفريقية كانت تبعيتنا لفرنسا. مع مطلع السبعينات، حين تبين المختار ولد داداه رحمه الله وهم المراهنة على فرنسا الذي عبر عنه في إحدى خطبه ” يريد البعض أن يتهمنا في ديننا لأننا متعلقون بفرنسا، وردا على ذلك نقول لهم بأن لدينا أسبابا لأن نكون كذلك وبأن الاعتراف بالنسبة لنا ليس شعورا مخجلا. تعلمون جيدا بأن التخلي عن صداقة فرنسا يعني التخلي عن كل أمل في مستقبل زاهر لبلدنا، إنه يعني العودة إلى الوراء، إنه يعني التخلي عن كل تفكير في التقدم، التخلي عن فكرة موريتانيا كبيرة غنية ومزدهرة.”(يوليو1957)، أدار البوصلة نحو الشمال لتدار دبلوماسيتنا من إحدى العواصم الشقيقة. وعند اندلاع حرب الصحراء الأليمة غيرنا ولاءاتنا، فتغير الكفيل…
أما مع الجمهورية الثانية فقد استشرى الفساد حتى أصبح سياسة ممنهجة بيعت بموجبها أملاك الدولة للأسماء الخمسة المتحكمة في الثروات الوطنية، وبلغ القمع مداه حتى غدا النظام بوليسيا. أما على المستوى الدولي فقد كان الغياب كاملا…
لكن ما يجمع الجمهوريتين على اختلافهما هو الحضور الطاغي للأيديولوجيا، والغياب شبه الكامل للإنجاز. تردت الجمهورية الأولى بين الليبرالية والاشتراكية. ففي مرحلة الجمهورية الغرب إفريقية كانت الليبرالية هي الخيار الاقتصادي الذي فشل في إطلاق التنمية في مجتمع لا يملك قاعدة صناعية، ولا طبقة وسطى، أو سوقا داخلية، أو قوة شرائية تضمن حدا أدنى من الاستهلاك. وحين ربطت الصلة بالشمال حيث الأنظمة الاشتراكية في الجزائر وليبيا، جرت التأميمات وبدأ التفكير في مشاريع البنى التحتية وتسلل ماركسيو مريم داداه إلى الحزب والجهاز التنفيذي… لتسقط الجمهورية الأولى في نفس اليوم الذي أعلنت فيه أنها “إسلامية”!!!
أما الجمهورية الثانية فقد ورثت سلطة تتداولها الحركات الأيديولوجية الماركسية والقومية، والإسلامية، فلم يستطع ولد الطايع، رغم محاولته الخجول عند استلامه السلطة، الإفلات من قبضة الأيديولوجيين فتلاعب بهم خلال فترته العسكرية؛ يقرب هؤلاء ليضرب بهم أولئك، حتى وجد ضالته في القبلية حين فرضت عليه الديمقراطية. أما على مستوى الاقتصاد فقد أسلم زمامه للمؤسسات الاقتصادية الدولية التي فرضت عليه شروطها المجحفة.
إعادة التأسيس إذن ستقوم على شرعية الانجاز ضدا على تبعية الأيديولوجيا. فما نمارسه اليوم هو مشروع وطني قائم على إنجازات ملموسة في كافة المجالات. وبذلك نؤسس لخطاب علمي في مجال الممارسة السياسية. فالخطاب العلمي خطاب وصفي بينما الخطاب الأيديولوجي خطاب تنظيري يفرض أطرا جاهزة على الواقع الذي ما يفتأ يتحرر منها لتسقط الأيديولوجيا. وهكذا، فإن الخطاب السياسي للجمهورية الثالثة المنشودة (لا يمكن الحديث عنها على مستوى المؤسسات إلا بإصدار دستور جديد نابع من إرادة الموريتانيين ومعبر عن مصالحهم وطموحاتهم، مثل العلم الجديد، والنشيد الجديد، والعملة الجديدة…) يشاد على “البراكسس” ليكون أكثر واقعية، خطابا “وضعيا” (Positif) يصف الأشياء بدل تنسيق الأفكار. وهو بهذه الصفة ليس خطابا نخبويا تحرسه زمرة من المثقفين العضويين، الذين يجمعهم مرسوم ويفرقهم آخر، وإنما هو خطاب شعبي كتبت حروفه الأولى في “الحي الساكن” وسط الغبار وضجيج العامة…
لكن اللوحة لا تكتمل إلا بإعادة التأسيس على مستوى الفكر والثقافة؛ فمثلما أصبح للجمهورية الثالثة علمها الجديد ونشيدها، وغدا مجالسها الجهوية وعملتها ودستورها، ينبغي أن يكون لها فكرها الوطني، وأغانيها وأناشيدها الوطنية القائمة على الابتكار والإبداع.
حقا، إن الجمهورية الثالثة هي الجمهورية الموريتانية الأولى؛ فقد تهنا مع الجمهورية الأولى في غرب إفريقيا، وشطحت بنا الجمهورية الثانية إلى أقصى الشمال.. أما اليوم فنحن هنا في موريتانيا حيث أمّنا العرب، ونستعد لاستضافة الأفارقة، وبذلك تحررنا من وخز الهمزة لنصبح عين الفعل الصحيح.. فعل “إعادة التأسيس”…

من صفحة الكاتب على الفيسبوك