إعلانات

الدين في الأفق الليبرالي * الكاتب : د. السيد ولد أباه

خميس, 09/11/2017 - 00:07

من الآراء الشائعة في الساحة الفكرية العربية القول بتعارض الدين والليبرالية، بالنظر إلى أن الدولة الليبرالية الحديثة هي دولة محايدة تجاه الدين عقيدة وممارسة ، وهذا الحياد هو شرط انتظامها الديمقراطي واعتمادها المساواة بين مواطنيها.
من المهم الرجوع لدحض هذه الأطروحة إلى كتاب الباحثة البريطانية «سيسيل لابورد» الصادر مؤخراً بالإنجليزية بعنوان «الديانة الليبرالية»، وهو كتاب جاد يندرج في سياق أدبيات الفكر الفلسفي والسياسي الراهنة التي سعت إلى إعادة النظر في النظرية العلمانية التقليدية حول الفصل الجذري بين الدين والدولة.
وما تبينه «لابورد» هو أن فكرة حيّاد الدولة تجاه الدين ليست بالبديهية السهلة، بل تطرح إشكالات نظرية وعملية في المجتمعات الليبرالية التي تتفق على اختلاف أنظمتها الدستورية والسياسية في مبدئين أساسيين هما: عدم اعتماد الدولة مرجعية دينية رسمية، والإقرار بحق التدين الفردي اعتقاداً وتطبيقاً. ومن هذه الإشكالات ما يتعلق بتصور الدين نفسه الذي يختزل في نموذج الدين المسيحي الغربي بنمطه الاعتقادي الفردي وما يتأسس عليه من معيار اليقين الذاتي، في مقابل الديانات ذات النمط الجماعي والإرث التقليدي التي هي الغالبة على أكثر الأمم البشرية. كما أن إقصاء التصورات الدينية الجوهرية قد يفضي أحياناً إلى إقصاء كيانات اجتماعية بكاملها، باعتبار ارتباط هذه التصورات بهويات هذه الجماعات.
في ضبطها للتصورات الليبرالية للدين، تميز «لابورد» بين ثلاث مقاربات متمايزة: مقاربة أخلاقية تقوم على عدم اعتماد الدولة في تبرير أعمالها على أي تصور معنوي للخير الجماعي، ومقاربة قانونية تتأسس على المساواة بين مختلف الديانات وغيرها من المعتقدات والتصورات الجوهرية، ومقاربة إبستمولوجية معرفية تلغي من المجال العمومي أية أفكار غير قابلة للتعميم على المستوى الجماعي.
إن كل واحدة من هذه المقاربات تفضي إلى مشكل نوعي، فالتصور الأخلاقي عاجز عن التوفيق بين حياده التبريري الأصلي والآثار العملية لهذا الحياد التي من المستحيل ضمانها، والمقاربة القانونية عاجزة عن تسيير معضلة الهويات الجماعية المؤسسة على التزامات أخلاقية جوهرية، في حين أن المقاربة الإبستمولوجية لا يمكنها احترام مبدأ الأفكار الإجماعية المشتركة لأن من طبيعة الرهانات الأخلاقية أن تفسح المجال أمام أفكار ومعتقدات لها وقعها العملي وإنْ كانت ليست مدار إجماع معرفي.
وما تصل إليه الباحثة هو تفضيل الخيار الوصفي للدين على الخيار التأويلي الذي يضيع في متاهة النقاشات العقدية واللاهوتية على رغم ادعاء الحياد تجاهها، بما يعني عدم التوقف عند المصادر الدينية للأفكار والتصورات والإقرار بأن في التمثلات والمعتقدات الدينية عناصر معيارية مهمة، يمكنها كغيرها من التصورات الأخلاقية الإنسانية أن تنفذ إلى المجال العمومي. فليس الدين مجالاً ممنوعاً على العقل العمومي ولا هو نقيض له، وليس الاستناد علناً إلى المرجعية القيمية للدين خروجاً عن المنظور الليبرالي الذي له سمات ثلاث مميزة هي «نواته الدنيا»: الطابع البرهاني، والسمة الإدماجية التي تضمن المساواة بين المواطنين على اختلاف دياناتهم ومللهم، والسمة المحدودة التي تفسح المجال أمام حيوية المجتمع وتضمن استقلاليته وحريته.
ولعل أكثر ما يشدنا في نظرية «لابورد» هو تبيان زيف الخطاب المتشدد الذي لا يرى في الليبرالية سوى العداء للدين، في حين أن الليبرالية نظام قانوني واجتماعي متنوع، لا يمكن استيعابه إلا من خلال علاقته المركبة بالحقل الديني من حيث هو في الغالب مرجعيته القيمية العميقة والأفق الإشكالي الذي يجسد أزماته ومصاعبه العملية. وما نلمسه اليوم في المجتمعات الليبرالية الغربية هو إعادة طرح المسألة الدينية السياسية في ضوء التحديات الأخلاقية الكبرى التي طرحتها الثورة التقنية الاتصالية والجينية وتصاعد موجة العنف الديني الراديكالي والإرهاب العابر للحدود، مما حدا بالفيلسوف الألماني الكبير «يورغن هابرماس» إلى الحديث عن دخول أوروبا عصر «ما بعد العلمانية»، بمعنى ضرورة الاعتراف للدين بنواته العقلية الدلالية وبحقه في ولوج المجال العمومي مع احترام شروطه التداولية البرهانية الحرة.
وبخصوص المجتمعات المسلمة، من الواضح أن الليبرالية المعتمدة تراعي المفهوم الجماعي القيمي للدين الذي هو محدد محوري للهوية وإطار الاندماج الأهلي مقابل التصورات الفردية الذاتية في المجتمعات المسيحية الغربية، مع الاحتفاظ بالركيزتين الأساسيتين في النظام الليبرالي وهما الحرية فكراً وممارسة، والعقلنة البرهانية تصوراً وتنظيماً.