أ.د. عبد الله السيد (*)
شكلت أزمة الشعور بالزمن أكثر هواجس سوء ظن الشفيق التي انتابتني وأنا أحجو ملامح الإصلاح الذي بشرنا معالي الوزير الأول أنه بات قريبا، وهي بشارة لا تقل أهمية عن رفع الجائحة، والاستفادة منها في بلوغ الاكتفاء الذاتي، والقضاء على البطالة، وتحسين الظروف؛ لأن قيام التنمية لا يكون إلا ببناء الإنسان، ولا سبيل إلى ذلك البناء دون التعليم.
طوح بي الشعور بالزمن في حلقات من مسارنا التعليمي منذ قيام دولتنا؛ لا تخلو من عتمات تثير القلق، وقد تبعث اليأس في نفوس غير المريدين ممن يرون ترك المشاريع التي لا يظهر ربحها بشكل سريع.
قلت في نفسي ربما تكون الحكومة عاكفة على اختيار خلاصة من الإصلاحات السابقة، وتذكرت أن إصلاح 1974 كان أكثرها جدية؛ لأنه قام على دراسة الإمكانيات، واستفاد من تجارب الآخرين، وسعى إلى ربط التعليم بالمجتمع من جهة، وجعل مخرجاته مستجيبة لسوق العمل من ناحية أخرى، ولم تقتصر نظرته للتعليم على مرحلة من مراحله، ولا على جانب من جوانبه، فقد اعتنى بالمرحلة ما قبل المدرسة حتى الجامعة، وانشغل بالتعليم الحديث انشغاله بالتعليم المحظري، وانطلق من المعطيات البشرية القائمة، وأعطى دراسة وافية عن الكلفة المالية...
وبموجبه تأسست مكونات عديدة من البنية القائمة الآن، كالمدرسة الوطنية للأساتذة، والمدرسة الوطنية للإدارة، وبعض المعاهد الفنية في مجال الزراعة، والمعهد العالي الإسلامي، واستحدث التعليم العربي في الإعداديات، وكذلك باكالوريا الدراسات الأصلية، والعصرية إلى جانب الشهادات الأخرى التي كانت قائمة.
من المنطلقات التي بني عليها هذا الإصلاح أن التعليم مهمة الدولة الأساسية؛ لذلك كان التلاميذ المحولون من أماكن سكنهم الأصلي مشمولين بالكفالة في الأقسام الداخلية، وبمنحة سنوية للملابس، وكل تلاميذ الابتدائية والثانوية يجدون الكتب والدفاتر مجانا، أما المنحة في التعليم العالي فكانت حقا للجميع، والأمل الراجح في الحصول على الوظيفة كان مشجعا للأسر على تعليم أبنائهم.
أجل كان كل ذلك والبلد خارج من ظروف اقتصادية صعبة، وحرب كبيرة التكاليف، وقيادته حريصة على عدم الارتماء في أحضان أي من قطبي الحرب الباردة، ومقتنعة بمواجهة السياسة الصهيونية التوسعية، والتمييز العنصري الذي كانت تمارسه أقلية البيض في جنوب إفريقيا.
تذكرت كل ذلك فتساءلت في نفسي كيف تمكن هذا الإصلاح من أن يرى النور في تلك الظروف؟ وتعجبت من حرص السلطات على تكوين لجنة كفاءات وطنية مستقلة برئاسة الدكتور محمد المختار ولد اباه، (مد الله في عمره)، عهدت إليها إعطاء تصور لهذا الغرض، وقد باشرت عملها سنة 1973، وبعد كتابة تقريرها أعطته الحكومة كامل الوقت لنقاشه، ثم ناقشه المكتب السياسي لحزب الشعب، قبل أن يعتمده بتعديلات خفيفة، كما نصت رسالة التهنئة التي تلقاها رئيس اللجنة موقعة من مقرر المكتب السياسي السيد عبد العزيز صال، (رحمه الله).
وبالرغم من اعتماد التقرير، والشروع في تنفيذ جوانب الإصلاح المختلفة فيه فإن السلطات الإدارية لم تجرؤ على تنفيذ بعض مقتضياته؛ خاصة ما تعلق منها بتدريس مواد العلوم الإنسانية والتربية الإسلامية باللغة العربية في التعليم الثانوي؛ الأمر الذي رآه وزير التعليم السيد سك ما منجاك في عهد لجنة الإنقاذ الوطني سنة 1979خللا كبيرا؛ اقتضى منه إصدار تعميمه المعروف بالرقم " 02 لسنة 1979" الذي أثار احتجاجات عنصرية في بعض الثانويات، كان من نتائجها استشهاد شخص بريء على قارعة الطريق، وارتفاع وتيرة الاحتقان الاجتماعي؛ الأمر الذي تداركته السلطات العسكرية بإقالة ذلك الوزير، وتعيين آخر أوعزت إليه بالعمل على تهدئة الأمور، وتبعا لذلك أعدت وثيقة "الإجراءات الانتقالية" التي استمر العمل بها عشرين سنة، وكان من نتائجها ظهور الثنائية اللغوية في التعليم الثانوي والعالي على النحو التالي:
- تعليم عربي بمختلف شعبه، توسعت قاعدته عبر السنوات بشكل كبير.
- تعليم فرنسي بمختلف شعبه ضاقت قاعدته؛ حتى أغلقت بعض تخصصاته لعدم وجود الطلاب في المراحل الجامعية.
وباتت نظرة الحكومة لنجاحها في التعليم منحصرة في قدرتها على تسيير السنة الدراسية دون مشاكل؛ خاصة أنه في ظل الدكتاتورية العسكرية، ارتفعت وتيرة المد الأيديولوجي بحركاته السياسية داخل الأوساط التعليمية، تماما كما كان قائما قبل نجاح حزب الشعب قبيل إصلاح 1974 في جر تلك الحركات إلى داخله، أو فتح المجال لها عن طريق منظماته الشبابية.
تمنيت حقيقة أن تكون بشارة الإصلاح المنتظر قد انطلقت من أن التعليم بعد إستراتيجي؛ لا يمكن للدولة أن تتخلى عنه، ولا يستطيع القطاع الخاص أن يضطلع بجزء منه إلا إذا كان قادرا على الاضطلاع بالمهام الإستراتيجية الأخرى كالدفاع والأمن، وأن أي إصلاح فيه يجب أن يقوم على أسس قوية؛ فيها جهد الخبرة، وقناعة المشرع، ودعم القوى السياسية، وإرادة السلطة المنتخبة.
يتواصل إن شاء الله
__
(*) مثقف وأكاديمي موريتاني كبير ومدير بيت الشعر في نواكشوط
___
الحقلات السالبقة:
نتمنى أن يتضمن إصلاح التعليم: (ح1)
_