تزخر مدينة شنقيط بالمكتبات التي تضم ذخائر الكتب ونفائس المخطوطات ونوادر الوثائق، وكان ذلك نتاجا طبيعيا لكون المدينة ظلت لقرون عدة جسر الثقافة بين المشرق والمغرب العربيين وصلة وصل حضارية مع إفريقيا الغربية.
وتغطي المخطوطات بتلك المكتبات فترة زمنية تمتد من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر، وتهتم بجميع العلوم والمعارف مثل علوم القرآن والحديث والسيرة النبوية الشريفة والفقه خاصة الفقه المالكي والعربية وعلومها وآدابها وعلم الفلك والرياضيات والهندسة والتاريخ والطب والجغرافيا وغيرها.
وقد ساهمت هذه المكتبات خلال القرون الماضية في إثراء المشهد الثقافي في البلاد وعلى امتداد السوح المشرقية والمغربية، وأغرت الباحثين بالتوجه إليها من كل مكان، بحثا عن المعارف.
ومن أبرز المكتبات المشكِّلة لخريطة المكتبات الشنقيطية، مكتبات: أهل حبت، وأهل أحمد محمود، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامَّنِّي، وأهل عبد الحميد، وأهل أداعة، وأهل السبتي، وأهل الخرشي، وأهل بلعمش.
وتحتاج هذه المكتبات للكثير من الاهتمام والرعاية من أجل مواجهة الصعاب والتحديات الكثيرة التي تحاصرها.
وكانت “اليونيسكو” قد وجهت قبل سنوات نداء استغاثة من أجل الاهتمام بالتراث الإنساني المهدد في مدينة شنقيط التاريخية وفي نظيراتها الوطنية الثلاث: وادان، وتيشيت، وولاته، بهدف المسارعة بدمجها في المدن التاريخية الواجبة الحماية.
* بين الرفوف *
يرى الأستاذ سيف الإسلام ولد أحمد محمود، القائم على مكتبة أهل أحمد محمود، التي تتخذ من دار محاذية لجامع شنقيط العتيق مكانا لها، أن مكتبته كانت تضم في رفوفها أكثر من سبعمائة مخطوط، غير أن ذلك العدد تناقص بسبب عوامل الطبيعة من رطوبة وحرارة ومطر، بالإضافة إلى سُرَّاق الكتب والآثار ولصوص المكتبات. ويطالب الأستاذ سيف الإسلام، بضرورة رعاية هذه المكتبات وتوفير وسائل الحفظ لها وتصوير نسخ منها بالطرق الحديثة، وحمايتها باعتبارها تراثا وطنيا ينبغي حفظه، مشيرا إلى ما تتعرض له المخطوطات من مخاطر بفعل الطبيعة.
وعدد الأستاذ سيف الإسلام، الوسائل البدائية لمعالجة تلك المخاطر، مثل استخدام بعض المبيدات كالكافور لمكافحة الحشرات الآكلة للورق، وكذلك إدخال أوانئ كبيرة مليئة بالمياه إلى زوايا غرفة المكتبة الأربع؛ فالبخار الذي يتسرب منها يخفف من شدة الحرارة ويساهم في تهوية الغرفة بشكل لطيف، وكذلك رمي بعض أحجار الملح على أرضية الغرفة للحدِّ من الرطوبة.
ويقول الأستاذ سيف الإسلام، أن مكتبته تضم مخطوطات نادرة، من أبرزها مصحف كتب على رَقِّ الغزال، ويقول السيد سيف الإسلام، إن هناك تعبير لدى أهل شنقيط القدماء عندما يريدون التأكيد لشخص ما على صدقية قولهم وهو: “نحلفلك اعل بعين صفراء” أي على نسخة من المصحف الشريف كانت موجودة يومها ويتم الحلف عليها، مبينا أن العلامة المؤرخ المختار ولد حامدن، قال إن هذه النسخة من الأرجح أنها هي النسخة التي كان يحلف عليها الناس عند القضاة، وهي التي يعنيها أهل شنقيط بقولتهم، ففيها كل المواصفات، ثم إن ولد حامدن قال إن هذه النسخة شوهدت آخر مرة في منزل بناهي ولد أحمد محمود، ويقول السيد سيف الإسلام، إن النسخة مستقدمة بالفعل من منزل بناهي.
ومن نوادر مخطوطات مكتبة أهل أحمد محمود، شرح المَكُّودي على ألفية ابن مالك في النحو والصرف، وجزء من كتاب الشمائل للإمام الترمذي، وكتاب في الوفيات لابن خِلِّكَانْ، وكتاب في المواقيت مطبوع على الآلة الحجرية في مصر.
واستعرض الأستاذ سيف الإسلام بعضا من مؤلفات الشناقطة المخطوطة في مكتبته، مثل التقريب والتسهيل، للشيخ ولد حامنِّي.
ويختم الأستاذ سيف الإسلام ولد أحمد محمود حديثه الذي خص به الوكالة الموريتانية للأنباء، مطالبا بإنصاف المشرفين على المكتبات الذين يقدمون هذا الوجه الحضاري المشرق للزائرين الأجانب، ومنحهم صفة دبلوماسية.
ومن جميل الصدف أن أهداني الأستاذ سيف الإسلام نسخة من العدد 6571، من يومية “الشعب” الصادر في الثالث عشر من يونيو 1999، الذي يحوي تقريرا عن مكتبات شنقيط.
أما مكتبة أهل حبت، التي تتخذ مقرا من بناية عتيقة إلى جانب السوق القديم بحي طِيرْزَه، فتضم في رفوفها ودواليبها حوالي ألفي كتاب، من بينها 1400 مخطوط، وتصنف هذه المخطوطات حسب المواضيع إلى الفنون التالية: علوم القرآن، الحديث الشريف، التوحيد، السيرة النبوية، التصوف، الفقه، اللغة وآدابها، الحساب، الطب، علم الفلك، الحكمة والتاريخ.
وينضاف إلى ذلك الكثير من الوثائق المهمة، ومنها ما يتعلق بحياة أهل شنقيط في العصور السابقة.
ومن ضمن المخطوطات النادرة التي رأيناها في مكتبة أهل حبت: مصحفان شريفان أحدهما بخط الفنان الفارسي محمد أبو القاسم التبريزي، والآخر مغلف بطبقتين من الجلد ومصدَّر بزخارف مذهَّبة، وكذلك كتاب صحيح الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري، وهو مخطوط يعود تاريخ نسخه إلى سنة 480 للهجرة، كما هو مبين على الصفحة الأخيرة منه، وكتاب إمتاع الأمة بالأحاديث التي اتفق على تخريجها الستة الأئمة، وكتاب الجامع الصحيح لأسانيد المستخرج من أربعة مسانيد، وكتاب التبصرة للخمي.
كما توجد بهذه المكتبة خطوط كوكبة من كبار علماء المسلمين، مثل السيوطي، والونشريسي، والزرقاني، والشبرخيتي، بالإضافة إلى سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم، وسيدي محمد ولد حبت، والتجاني ولد باب ولد أحمد بيب، والشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل، ومحمد يحيى الولاتي.
ويؤكد الأستاذ عبدُ الله ولد غلام ولد حبت، القائم على مكتبة أهل حبت، في لقاء مع الوكالة الموريتانية للأنباء، أن المؤسس الأول لهذه المكتبة هو الشيخ سيدي محمد ولد حبت، المتوفى 1288 للهجرة، وقد اعتمد طرقا ثلاثا لجمع شتات هذه المخطوطات، وهي الحصول على الموجود في شنقيط من المخطوطات إما بالبيع أو النسخ، والطريق الثالثة اقتناء المخطوطات في رحلة العودة من الحج التي كانت تمر بالسودان ومصر والمغرب الكبير، فضلا عن بلاد الحجاز، أما ثالثة الطرق فهي سفر له إلى المغرب الكبير، تمكن خلاله من الظفر بالكثير من المخطوطات ذات المصدر الأندلسي.
ويقول السيد عبد الله أن مؤسس المكتبة استطاع جمع أكثر من ثلاثة آلاف مخطوط، لكن هذا العدد تناقص بفعل عاديات الزمن، وكذلك السرقة والعرِيَّةِ.
تقرير/ النبهاني ولد أمغر