تحاول الموجة الشعبوية أن تخلق للرأي العام فسطاطين وهميين لا وجود لها، فسطاط ينتصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في مقابل فسطاط يستسيغ إساءة الأدب في حق الجناب الشريف، وربما دفع الصلف بعض قادة الشعبويين للزعم أن غيره لا يغضب لرسول الله صلى الله وسلم ويغضب لغيره، وهو عين الخطأ الذي ارتكس فيه النائب محمد بوي في نهاية مداخلته أمام البرلمان، بمناسبة نقاش برنامج الحكومة.
والواقع؛ أن الشعبويين يضعون العربة أمام الحصان، يمكن أن تستعيض عن الحصان بالحمار ولا حاجة للبيان أنه "مدبور" أما عظامه فبيض وأما جلده فصليب ، ولا غرمٌ عليك ولا خذل، ويفرغون طاقات وجهودا هم في أمس الحاجة إليها في غير طائل.
إنهم يعمدون إلى القيام بعملية حرق ذهني تخيلي للمراحل في كل مرة، وكل مرة تبطل ألاعيبهم، ثم لا ينتهون ولا هم يذكرون.
لنبدأ تحرير المفاهيم من النقطة صفر..
البرلمان سلطة تشريعية، والحكومة سلطة تنفيذية، والقضاء هو ثالث السلط، ويحكم التكامل من ناحية والتمايز والفصل من ناحية أخرى علاقات هذا الثلاثي.
صادق البرلمان قبل سنوات على تعديل مشهود سد ثغرة في التشريع الموريتاني، ممثلا في المادة 306 المعدلة، والتي تنص على أن الاستهزاء بالله أو رسله أو كتبه أو شعائر الإسلام وما يلحق بذلك من ما يدور في ذلك الفلك لا يستتاب صاحبه، ويحكم عليه بالإعدام.
نشر أحد الأساتذة في الثالث يوليو سطورا قميئة في نهاية إجابة أحدهم أو إحداهن على أسئلة امتحان التربية الإسلامية في الباكلوريا، السطور المذكورة على سوء خطها وصعوبة فكه كانت تتضمن سوء أدب وردة وآذت المسلمين جميعا.
استجاش الرأي العام، وحق له؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه موريتانيا التي تشرفت منذ أول يوم من أيام كينونتها بوسم الإسلامية.
كان المواطنون؛ يتلهفون لمحاكمة صاحب الورقة، وكانت السلطات العليا تتلهف هي الأخرى لذلك، أقسم فلان وفلان أن الورقة تعود لتلميذ اعتبروه محميا لاعتبارات دنيوية زمنية، ناسين أو متناسين أنه عندما يستهدف الإيذاء الأمة في أقدس رموزها فإن كل اعتبارات الطين يجب أن تتهاوى وتلغى، ولا عذر في ذلك، وليكن المسيء من يكون، وإلا فقدت السلطة مصداقيتها، هذا من ناحية المنطق البحت مبدئيا.
لم يكن بإمكان المصالح المختصة حينها بتصحيح الباكلوريا التسور على صاحب الورقة، فالعملية سرية والتوهيم يطال الجميع، وأي إخلال بسريتها يفقد الامتحان كله مصداقيته، وهنا كان درء مفسدة إفساد امتحان 40 ألف تلميذ مقدما على جلب مصلحة متمثل في معرفة صاحب الورقة القميئة.
حاول الشعبويون في تلك المرحلة تسويق كل الأكاذيب.
بالتزامن مع اللحظات الأولى لإعلان نتائج الامتحان، أصدرت وزارة التعليم إخطارا أنه تم التعرف على هوية من كتب الورقة المسيئة، وأنه تمت إحالتها إلى العلماء ليقضوا بحكم الله فيها.
قد يقول قائل، ونبوب على وجاهة قوله، ما دخل العلماء هنا، لماذا لا تحيلها الوزارة إلى النائب العام مباشرة ليقوم بمباشرة الدعوى العمومية في الموضوع، لعلها تجيبه بالسؤال: بأي صفة نقوم بذلك، نحن جهة تصحيح ومنح علامات، ولسنا جهة محاكمة وتنفيذ عقوبات؛ فلندع هيئة العلماء التي هي مرجعيتنا الدينية تتولى المهمة، وقد تجيبه وزارة التعليم: لعلنا ربما أخطأنا في المرور بمحطة العلماء، وهو خطأ يسير، لكنه يزيح عنا المسؤولية، فنحن لسنا جهة اتهام.
قال الشعبويون: إن هذه إلا ملامح تستر سوف يكون من نصيب هذا المسيء الذي يأوي إلى ركن شديد، وإن يد العدالة عنه لقصيرة، وبينها وإياه متاريس وألغام.
على القناة الرسمية الموريتانية أطل وزير الشؤون الإسلامية في تصريح حظي بمتابعة هائلة، وقال بالحرف الواحد إن رئيس الجمهورية والحكومة فداء نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان لهم بصفتهم مسلمين مؤمنين إلا أن يكونوا كذلك، وأردف أن رئيس الجمهورية أمر بالقيام بكل ما من شأنه إبراء الذمة أمام الله في هذه النازلة.
أصدر العلماء فتواهم، واعتقلت المعنية بالموضوع، وأحيلت إلى الجهات العدلية في هدوء ودون جلبة.
إلى هنا، أسألكم بالله الذي هو ربكم: هل تخلت الدولة عن الدفاع عن الجناب النبوي، هل تساهلت مع الاساءة؟
جاء الوزير الأول للبرلمان ليقدم برنامج حكومته، مبدئيا: لا يعني الحكومة ولا البرلمان ملف أمام القضاء، ولا داعي للحديث عن تلك الورقة إلا في إطار التنديد بالإساءة، ولا مجال للتخوين ولا المزايدة على الحكومة ولا على الزملاء البرلمانيين في القضية من طرف أي برلماني.
وقف محمد بوي، وسرد الإساءة متهما زملاءه بعدم الغضب لله ورسوله، وقدم سطورا وقحة تفترض أن المكتوب كتب في حق الرئيس.
والحقيقة أن مداخلة محمد بوي لا معنى لها ولا مبرر، فلا الرئيس قبل الإساءة ولا تركها تمر مر الكرام، ولا زملاء ولد الشيخ محمد فاضل لم يغضبوا لله ورسوله، ولا هو يمتلك حق المزايدة عليهم في دينهم وتمثلهم مستلزماته.
ماذا يريد؟
الرئيس أمر بإبراء الذمة في النازلة..
العلماء أفتوا..
الملف بين يدي القضاء..
والمؤسف أن هذه الدعوة الشعبوية الإقصائية التي يحاول بعضهم عن طريقها تقديم نفسه كمدافع أوحد عن الدين تنطلي على طيبين وطيبات.
الدين لنا جميعا، شعبا وحكومة، ونرفض في أي ظرف محاولة تصويرنا فريقين: فريق نصرة؛ وفريق ضد النصرة.
نحن جميعا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحبه رئيسنا ووزيرنا ومعلمنا وأستاذنا ومعارضنا وموالينا، وديننا هو ما يوحدنا، وأي محاولة لتقديم بعضنا مع الدين وبعضنا ضده هي محاولة مرفوضة، ويجب علاجها من الجذور.
ليركب نوابنا أمواج السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة، وليتركوا لنا ديننا مادمنا متمسكين به، وما داموا لم يروا كفرا بواحا..