لم تَخفَ علينا –ونحن صغار نرتدي من الطفولة براقِع - تلك الهَيبة التي يتميَّز بها الإمام بُدَّاه, فكانت تفوح علينا روائحها إذا لَقيناه في الطَّريق ماشيا, أو رَأيناه مع قوم متحدِّثا, أو سَمعنا حديثَ الناس عنه معبِّرين بلسان المودَّة.
كنا نقصِد مسجد بداه على أقدام صبيانية زالقة, فنمرُّ بديار لم تُبقِ اليومَ سوى الحزن على أهلها الذين بانوا ولم تبِن مودَّتُهم, على حدِّ قول الشاعر:
ليت الديارَ التي تَبقى فتُحزِننا..
كانت تَبينُ إذا ما أهلها بانوا
يَنأون عنَّا، وما تنأى مودَّتُهم..
فالقلبُ رَهنٌ لديهم أينما كانُوا
لم يكن في الحيِّ يومَها مسجدٌ سوى مسجد بداه, ولا يُمكن تَصوُّر أوَّل مشاهد رؤيتي للإمام بدَّاه, فهي مشاهد عقلت وأنا بين أحداثها بحكم الولادة والنَّشأة في ذلك الحي القديم.
ولكنِّي أتذكَّر ذلك اليوم الرَّمضاني الذي رجعت فيه إلى البيت وأنا أقبض أكفَّ الحفظ على قصَّة سمعتُها من ذلك الشيخ المَهيب في درسِه الرمضاني بين الظهر والعصر.
كان الإمام يُفسر سورةَ التِّين, فذكر أنَّ أعرابيا دخل على بخيل, فوجده يأكل تينا وزيتونا في طعام..فخبَّأ البخيل التِّين في جَيبِه, ثمّ جلس الأعرابيُّ يأكل الزيتون ,فقال له البخيل مُمتحنا: هل تحفظ شيئا من القرءان؟
فقال الأعرابيُّ نعم , وقرأ: (والزَّيتونِ وطور سِينين..) فقال له البخيل: مهلا, وأين التِّين؟ لقد أنساكَه أكلُ الزيتون , ففضحه الأعرابيُّ, وقال له: التين خبَّأتَه أنت في جيبك.
كان الشيخ يُقطِّع تلك القصَّة بضَحكه الباسم..فاكتمل بذلك ما تستجمع له أفكار الطفولة, فكنت أرجو أن تَشُدَّ شمسُ ذلك اليوم رحلَها للغروب, وأن تلبَس الأرض جلبابَ الظلام..وأظفرَ بسَمَر أذكر فيه للأصحاب تلك القصَّة, حيث كنا نجتمع أمام "بُوتيك اكنَيّْنَه" الذي لم تَغب عن ذِكره هيبَة بدّاه رغم طيش الطُّفولة وجُنون الجِوار.
كان "بوتيك اكنينه" دكَّانا مشهورا, ومعروفا بشجرة "آكنين" المعروفة بثمرتها المسماة "امبُقْرِلِّي, كانت الوحيدة من نوعها في المنطقة..كان يَجلس تحتها محمد سالم "المجنون" ذو الدعابة.
وكان صاحب الدكان رجلا من أهل القرءان فاضلا, واسمه أيضا محمد سالم, كان لا يُحَرِّج على الأطفال في لَعبهم واستباقهم..وكان كثيرَ الجلوس والقراءة في مصلًى جنبَ شجرة آكنين مُحاط بالحجارة والخشب, غير مغطَّى.
وغيرَ بعيد من الشجرة كانت شتو منت عبد الحميد جارة لنا طيِّبة تَعرضُ تجارتها, فينشأ مجمعٌ كبير في تلك البقعة المُؤنسة.
وَقفت هناك ذاتَ يوم سيَّارة جميلة فيها شابٌ فَخور من أهل لكصر يرتدي ملابسَ جديدة كان قد عيِّن والده وزيرا ..فقال لمحمد سالم المجنون: (انتَ اِلَين نعطيك ذي الوَتَ وذِي اللَّبسة والفين أوقية ..لاهي تبرَ ؟)
فقال محمد سالم المجنون ضاحكا: (لاهي نبرَ, يغير لاهي اتجِن انتَ)
وذاتَ يوم أتى ذلك المصلَّى رجلٌ غريب على الحيِّ, فدعانا للصلاة خلفه, فلم يَستَجب له أحد, فلما انصرف من صلاتِه, قالَ: (انتومَ امَّالكم ما صليتُو امعايَ ؟)
فقال له محمد سالم المجنون: (هومَ ما صلاوْ امعَ محمد سالم مول البوتيك, لاهي ايصلوا امعاك انت !؟ انت اثْرَك بدَّاه ول البصيري ولل شنهو !؟)
فيا لها من هَيبة إمام !!..ويا له من قَدر لم يَبخسه جُنون, ولم يتجاوزه طَيش.
كان الإمام بُدَّاه ولد البُصيري صوتَ حقٍّ, وقِبلة علم, وكفَّ نَوال, وروضة مهابة, وريحانة فُكاهة, وكان زمانُه في لكصر عيدا يَلبس حًلَّة من كل جميل..بل كانت أيَّامه في الزَّمان بمنزلة مَغنى آل جفنةَ في الدهر, وكان هو بمنزلة البسمةِ في فَم الزَّمن..على حدِّ قول المتنبِّي:
لقد حَسُنت بك الأيامُ حتَّى ..
كأنّك في فَمِ الزَّمنِ ابتسامُ.
رحمهم الله, وأدخلهم في جنات رضاه.