إعلانات

تذكير بأخلاق أهل القرءان..

خميس, 13/04/2023 - 20:08

محمد سالم المجلسي المجلسي

 

 

ذاتَ سَفر رمضاني..وبينما أنا داخل إلى قاعة الانتظار في مطار انواكشوط إذ أقبل إليَّ فتى يافع, عرفتُه حافظا للقرءان, وإماما للتَّراويح, حُلوَ الشَّمائل, بَريءَ التَّودُّد, مبهاجا.. فتبادلنا التّحايا, واستبشَرنا بالمُرافقة, وذكر لي أنَّه يَقصد بلادَ الحرمَين بحثا عن عمل, ثمَّ انصرف وجلس قُربَ عَجوز مُقعدة على كُرسيٍّ مُتحرِّك, بدا ليَ أنَّها أمُّه, حيث كان برًّا بها, وأتبع لها من الظِّلِّ.

حين بَدأت إجراءات رُكوب الطَّائرة..وضع حقيبتَه على ظهره, وقام رغم طُول الطَّابور فتقدَّم نَحوَ كُرسِّيِّها يُحرِّكه بتُؤدَة لم تُذِبها حُرقةُ الانتِظار, ولم تُزَعزعها عَجَلةُ الرَّكب ولا تَسابُق الرُّكَّاب, حتَّى تَمَّت إجراءاتُ صُعودِهما.

وعلى مَتن الطَّائرة لم تَكن مقاعدُنا مُتباعدة..فكنّا نَتحدَّث أحاديثَ شَيِّقة تَطوي المسافات, وكنتُ أسأله عن حال الوالدة فيقول إنّها بخير ومستَمتعة بالسَّفر..وربَّما احتاجت إليه فدَعته بخُفوت فرفع أحدُ الرُّكَّاب صوتَه: أمُّك تُريدك..فيُجيبُها مُسرعا إجابَة مَن دُعِيَ إلى الماء البارد على الظَّمَأِ.

وخلالَ ساعات في تُونس..كان ذلك الغلام اليَفَعة مع تلك الوالدة العجوز, لم يَتخلَّف عنها عند إجراء, ولم تَفقد معه حاجةً عند السَّكن, وتَعاطى النَّاسُ إشاعة عن احتمال تأخُّر بعض الرُّكَّاب عن تلك الرِّحلة بسَبَب كثرة الإقبال على بلاد الحرَمَين في العشر الأواخر من رَمضان..لكنَّ ذلك الفتى بَقِي مُستمسِكا بِغرز السَّكينة لم تَصرفه حيرةٌ ولا تَعجُّلٌ عن مِقبَضَي كُرسِيِّ والدته..حتَّى تمَّت المغادرة إلى جدَّة.

وفي مطار جدَّة.. كان كما كان في الطَّريق إليها نِعمَ الولدُ لوالدته مصاحبَةً ومعروفا وبِرًّا.

وهناك في مطار جِدَّة نكِّست أعلام تلك الصُّحبة, حيث عزلوهُما عندَ بِدايَة الإجراءات..وكان الولدُ يُطالبُ بالبقاء مع الوالدة إذ تَحتاج إليه حتَّى تَصل, ولكن محاولتَه لم تَنجح, فلبِث معها وقتا تحدَّثا فيه وأعطاها أوراقَها..ثُمَّ انصرف إلى طابُورِه.

كنتُ واقفا حيرانَ في الأمر, أنتظره في الطَّابُور..فقلتُ له: ما الَّذي جعلهم يعزلونك عنها ؟ فقال: "إنَّ عندَها إقامة, وعندي تأشرة..ولأهل الإقامة باب, بينما لأهل التَّأشرة باب آخر"

قلتُ وأين سَتلتقيان..؟ فقال: "لا أدري ..ولكنَّ أخاها سَيستقبلُها" فقلتُ: "الحمد لله ..خالك في استقبالكما ..؟" فحرَّك وجهَه مبتسما وقال: "إنَّه ليس خالي, فهي ليست أمِّي وإن كانت بمنزلة أُمِّنا جميعا"

غِبتُ في فضاء التَّعجُّب..ثمَّ قلتُ بعد أن سَجَّلتُ في ذاكِرتي حلقةً واقعية رائعة من الإحسان إلى الأمِّ ومُصاحَبَتها بالمعروف: "ما منزلتُها منك..؟"

فأطرق قليلا, ثمَّ خَفض رأسَه, وقال بِبراءة: "لا أعرفها, ولم أرها قبلُ, وإنّما جاء بها شُرطيٌّ في مطار انواكشوط فأوقفها بجانبي, فلمَّا بدأت الإجراءات, عَرضتُ عليها المساعدة فقبِلَت..ولا أعرف عنها إلَّا أنَّ لها أخا في جدّة أخبرتني بأمره في الطَّريق"

أعجبني مَعروف ذلك الفتَى, الَّذي وَجد بعد ذلك عملا سُرَّ به وسَعد, وما كنتُ أظُنُّ أنِّي أكتب عنه, حتَّى اتَّصل عليَّ بعد فترة, فدفعني الفُضول والاستطراد إلى سؤاله عن تلك الوالدة..فأتحفني بكلمة يَلوح فيها أنّ ما يَنفع ماكث وَلن يَذهبَ سُدى.

فقال إنَّها كانت قد طلبت منه رَقم هاتِفه, فكتبه لها, وأخذته مع أوراقها..ولم تَزل تتَّصل عليه, وتسأل عن حاله, وتَحنُّ إليه حَنين مَن أرأمَها الثَّكل.

وقال إنّها تتَّصل عليه من مكَّة والمدينة في المواسِم وتُمطره بوابل من الدُّعاء الصَّادق ما يُحبُّ أنَّ له به الدُّنيا.

فما أجمل المعروف, وما أطيبَ أثره, وما أجدَر أهل القرءان بالسَّبق فيه..!! (أُولَئِك يُسارِعون في الخَيرات وَهُم لها سابِقُون)