محمد ولد شيخنا
من لجة الحرب الأوكرانية-الروسية المستعرة .
سباحة بين معضلات الحسم المريرة وخيارات التسوية المرة.
في مقالة ماضية رأينا كيف كان صراع العام الماضي سجالا و داميا و غير محسوم .
ثم وقفنا عند لحظة الترقب الحالية أي لما ستكون عليه الهجمات الواسعة المنتظرة خلال فصل الربيع وذوبان الجليد من كلا الطرفين مع تخمين في الآفاق الممكنة من حيث المدى التي قد تصل إليه تلك الهجمات و ما قد يترتب عنها من نتائج ممكنة مع واجب التساؤل حول ما قد تكون عليه ردود الأفعال المقابلة من الطرف المدافع ، لا سيما في حال حصول تحول دراماتيكي حاسم محرج قد يهدد بالإنزلاق نحو إطلاق دوامة من التصعيد الخطير أو غير المتحكم بحيث لا يعود ، في النهاية ، من خيار سوى التوقف أو قفز الكل نحو المجهول .
والواضح للجميع أن الخروج على قواعد اللعبة الحالية للصراع ليس له من بديل سوى المخاطرة بالإفناء المتبادل غير المرغوبة من أي طرف أصلا .
وعلى كل حال تبدو ، بداهة ، معضلات الحسم مريرة إذ أنها مسألة شائكة ومستعصية لكل الأطراف .
إنها تصطدم بمحاذير وتخضع لإكراهات
و لكونها محكومة بسقوف صارمة من المنظور الاستراتيجي المصيري للكيانات المنخرطة وحتى من ناحية الأبعاد الشخصية و النفسية لأصحاب القرار فيها .
ومن جهة أخرى تبدو متسيدة بدورها القيود التسليحية والإمكانات المتوفرة وكذلك القسريات الميدانية بكل ما لها ، فرادى و مجتمعة ، من تأثيرات عنيدة لا يمكن القفز عليها .
ولتقريب الصورة سنستعرض بعضا من النقاط المهمة :
1 - حاليا يبدو واضحا صريحا في روسيا أن شأن هذه الحرب لم يعد مسألة كسب جولة أو حماية مصالح في الجوار الحيوي
أو حفاظا على مكانة أو إرث قائد وإنما أضحت من عميق مقتضيات بقاء الأمة الروسية نفسها وصيانة سيادة و وحدة الوطن .
و التصريحات بهذا المضمون لا تبدو أمرا تحشيديا فقط لتعبئة الناس أو هي من باب المبالغات الخطابية الدعائية لبعض المتحدثين بل إن أمرها يبدو كما لو صار قناعة جماعية حقيقية و راسخة لقوة عظمى تستشعر الخطر والاستهداف .
في المقابل لقد عبرت أمريكا أيضا و بشكل صريح ومنذ البداية على لسان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستون أن هدفها الأساسي هو إضعاف روسيا واستنزافها وإفشالها وحرمانها من أي مكاسب تحصلها من هذه الحرب فلا بد لهم من هزيمتها استراتيجيا كرسالة لها ولغيرها وهذا أيضا هو موقف غالبية الأوروبيين و لا سيما تلك الدول التي كانت يوما ما جزءا من الاتحاد السوفيتي المنهار أو فقط اقتصر الأمر بها على أن تدور في فلكه ضمن حلف "وارسو" السابق .
والواضح أن رأيا عاما بالغرب - أو في غالب بعض نخبه - يقدر أنه يخوض اليوم عبر هذه الحرب معركته المصيرية لإبقاء موقعه الريادي العالمي و للمحافظة على وضع الهيمنة القائم لصالحه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية و الذي تكرس بقوة بعد تفرده بزعامة العالم دون منازع إثر انهيار المعسكر الشيوعي وكسب الحرب الباردة .
وخلاصة القول انه :
- بالنسبة للغرب فسيعني كسب هذه الحرب من طرف الروس هزيمة مدوية له كلا و عنوانا لزوال هيمنته وانحسار ظله ؛
- أما بالنسبة للروس فعدم كسبها يكافئ سقوط دولتهم لمرتبة قوة متوسطة ستكون ممزقة ومنبوذة بل منكوبة .
2 - لا تبدو روسيا راغبة في الصدام العسكري المباشر مع الغرب في هذه الحرب أو بالوصول إلى وضع تكون فيه قوات من حلف شمال الأطلسي منخرطة بأي شكل
أو على أي مستوى في قتال علني
و مكشوف ضدها في الساحة الأوكرانية . لذا فقد رأينا موسكو تتراجع في مسألة التلويح بالرادع النووي وأيضا تبتلع مرارات الانتهاكات المتكررة لخطوطها الحمراء في كل مرة ولا سيما حول تزويد أوكرانيا بالأسلحة الهجومية والنوعية .
فبعد المدفعية المتطورة وبعيدة المدى (هيمارس ؛ قيصر و هاوتزر M198) ثم أنظمة الصواريخ الجوية المتطورة (NASAMS ) فها هي تصل طلائع دبابات القتال الرئسية و من الأجيال الحديثة (ليوبارد ، تشالنجر وآبرامز...) والحديث جار عن التزويد المحتمل بالطائرات الغربية من الجيل الرابع ك F16 ونظيراتها.
بالمقابل وحتى الآن لا يبدو الغرب من جهته راغبا أيضا في عمومه بالوصول إلى وضع يحرج روسيا عسكريا على الأرض أو يشعرها بالمهانة مما يضطرها لإستخدام النووي و لو بمستوى تدميري محدود (أسلحة تكتيكية).
و اللجوء لمثل ذلك الإستخدام سيكون متوقعا فقط في حالات مخصوصة مثل محاولة أوكرانية لمهاجمة شبه جزيرة القرم التي تقول روسيا أنها محمية بالرادع النووي تماما كالأراضي الروسية الصرفة .
والمقصود هنا تحديدا هو الاستيلاء الفعلي على تلك المنطقة الحيوية التي بها مقر أسطول البحر الأسود أو حدوث هجمات طويلة المدى و مدمرة ( أي جارحة جدا للكبرياء) تنتهك السيادة والحوزة الترابية الروسية نفسها المعترف بها دوليا .
ومع ذلك فقد حدثت حتى الآن بعض التحرشات المسجلة في هذا الصدد .
فعلى مستوى شبه جزيرة القرم حصل تفجير جسر "كيرش" الرابط مع البر الروسي و كذلك الهجوم بالمسرات على قيادة الأسطول في "سباستبول" و على القاعدتين الجويتين في "بلبيك " و "ساكي" و كذلك بعض الهجمات في الداخل الروسي غير المتبناة صراحة على منطقة "بيلغرود " الحدودية و على القاعدتين الجويتين : "دياغيليفو" في إقليم "ريازان"و "انجليز" في "ساراتوف" .
والخلاصة في هذه النقطة أن روسيا لايمكنها استخدام كل قوتها بما فيها النووية لحسم المعركة خشية إعطاء الناتو ذريعة قوية ومعقولة للتدخل بل إن البريطانيين في تحديثاتهم الجديدة يقولون بعدم زج روسيا حتى الآن بطيرانها بشكل كثيف ومؤثر في المعركة . و أيضا لا يبدو الغرب هو الآخر طليق اليدين في توفير كل الدعم الذي يرغب و تطلبه وتحتاجه أوكرانيا لاستعادة أرضها او لهزيمة روسيا مخافة إحراج هذه القوة العظمى وإعطائها المبرر لإستخدام سلاح نووي و لو تكتيكي ، محلي التأثير .
3 - تبدو ساحة المعركة في أوكرانيا مشبعة (saturée) على نحو مشحون من القوات والأسلحة ، فلا توجد بها فراغات للمناورة .
فأي هجوم يرمي التقدم على الأرض سيضطر القائم به لخوض معارك قاسية
و مؤلمة و سيتكلف عن كسب كل متر أفدح الأثمان .
و للدلالة على ذلك فالتقييمات البريطانية الحديثة أيضا ترصد في هذا الصدد و ترجح الآن ، حصول تحول مرحلي في عمل الروس وذلك بتركيزهم الجديد على تدمير مقدرات الجيش الأوكراني بشكل مقدم على هدف كسب الأراضي الذي كانت له الأولوية عندهم فيما مضى.
4- خلال العام المنصرم من الحرب فقدت روسيا أفضل معداتها (يقال نصف دباباتها) و أيضا خيرة جنودها الأكثر خبرة والأفضل تدريبا وهي الآن تعتمد بشكل كبير على قوات التعبئة الأخيرة ( 300 ألف احتياطي ) و حسب المصادر الغربية فهي تجهزهم من مخزوناتها من المعدات المتقادمة .
و في المقابل كانت خسائر أوكرانيا أفدح وأنكى على مستوي المعدات والجنود .
ويحصل جنودها الحاليين على تكوينات مستعجلة وليس لدى أغلبهم الخبرة الراسخة في استخدام أنظمة الأسلحة الغربية الجديدة عليهم والمعقدة تكنولوجيا.
وعلى مستوى كلا الطرفين يجري الحديث عن نقص الذخيرة ( فقد استوردتها روسيا من كوريا الشمالية و تعتمد أوكرانيا فيها على السخاء الغربي الذي بدأ يتململ ) ذلك أن وتيرة استخدام الذخيرة في هذه الحرب وصلت إلى مستويات مهولة وغير مسبوقة في أي صراع .
5 - تشكل طبيعة ميدان المعركة معضلة هي الأخرى وذلك لكثرة الحواحز الطبيعية
و العوائق الناجمة عن تهيئة المجال . فالأراضي الأوكرانية كثيرة الأنهار والمجاري المائية وهي ذات طبيعة طينية موحلة.
ومن جهة أخرى فهي أيضا أراضي تغطيها في غالبها المدن والبلدات فضلا عن المصانع والحقول الزراعية .
6 - تشكل كثافة الأسلحة المنشورة مشكلة لكن تواجد بعض من تلك الأسلحة المتطورة و الخطيرة على الميدان يشكل معضلة حقيقية لأي حسم .
و على الخصوص تشكل المدفعية بعيدة المدى (هيمارس60 و مدافع الميدان الثقيلة( هاوتزر) عيار 155مم الغربية مثل M198 الأمريكية و "قيصر" الفرنسية و ما يكافئ تلك الأسلحة في الجانب الآخر الروسي ) إشكالا كبيرا لكل جهد هجومي وذلك لطول مدياتها و لقوتها النارية
armes de pourrissement)
فهي تهاجم وتشتت خلال مرحلة التحشد للهجوم وتهدم الجسور وتمنع إقامتها وتوقف التقدم بمرونة نيرانها وقوتها وبعد مدياتها .
7 - أيضا تبدو مسألة الطيران هي الأخرى مشكلة جوهرية لروسيا و التي و إن كانت قدحققت التفوق الجوي إلا أنها لم تمتلك قط السيادة الجوية الكاملة . لقد فرضت الأنظمة المضادة للطيران الأوكرانية تقييدات كبيرة على الطيران الروسي و لا سيما من لدن الأنظمة الغربية المحمولة على الكتف كصواريخ (استينغر ) في البداية و الأنظمة متوسطة المدى لاحقا (NASAMS ) و غيرهما مما حصلت عليه أوكرانيا من مصادر غربية مختلفة.
والجدير بالتنويه أن هذا النظام الدفاعي الأخير هو الذي تحمي به أمريكا البيت الأبيض ومؤسسات الدولة السيادية بواشنطن.
فهذه الأنظمة فرضت و ستفرض بكل طبقاتها تقييدا كبير على الطيران الحربي الروسي و كذلك على الطيران المروحي في المقام الأول .
والمعروف أن مثل ذلك الطيران بشقيه الإثنين هما سلاحان ضروريان لمساندة الهجوم على الأرض و كذلك تغطيته وفتح الطريق أمامه و مرافقته .
لقد كانت فعاليات الطيران الأكثر ملاحظة خلال الفترات الأخيرة على الجانب الروسي هي القصف بالصواريخ والمسيرات و ضمن استخدام قصف ذي طبيعة استراتيجية من منظور االمنشآت المستهدفة و ليست فعاليات تكتيكية على أرض المعركة بشكل كثيف و حاسم .
وتبدو مشكلة الطيران أكثر وطأة عند الأوكرانيين الذين لا تتوفر قواتهم المهاجمة في الوقت الحالي على أي تغطية أو مساندة جوية بل فقط تغطية مضادة للطيران . وهذا الوضع سيحد كثيرا من فائدة الدبابات الغربية الموعودة لأن المعركة الهجومية الحديثة هي معركة (جوية -أرضية) Aéro-Terrestre.
لقد ظهرت تاريخيا الدبابات كسلاح استجابة لمأزق ثبات و تسمر الجبهة في أواخر الحرب العالمية الأولى نتيجة تأثير الخنادق و الرشاشات و المدفعية.
لقد حاول الألمان ايجاد حلول تكتيكية لتلك المعضلة عن طريق مقاربات استخدام ومفصلة مبتكرة بينما حاول البريطانيون من جهتهم تجريب حلول فنية فكانت أن ولدت الدبابة The Tank Mark 4
و التي لم تكن سوى جرارا وضع عليه مدفع وصفائح حماية للطاقم ثم كانت الدبابة الفرنسية رينو FT- 17 .
فالدبابة إذن بالتعريف هي سلاح (نار +حركة + حماية) أي أنها بعبارة أخرى :
قوة نارية تتحرك تحت حماية.
غير أن الألمان هم من سيستفيد أكثر من ذلك الابتكار حيث طوروه وجعلوا له عقيدة استخدام و تنظيم عضوي و أوجدوا صيغ دمج عمله المناسبة مع الأسلحة الأخرى خلال الحرب العالمية الثانية التي دوخوا فيها العالم بداية أمرهم .
لذا فإن تأثير الدبابات الغربية الجديدة المتطورة ضمن الوضع الحالي قد يكون محدودا و قد لا تجدي نفعا كبيرا في حال هجوم أوكراني بها دون مساندة وتغطية مناسبة من سلاح جو فعال لكنها بالمقابل قد تفيد كثيرا في مهمة الدفاع الأوكرانية من أجل صد هجوم روسي لأنه من المعروف أن أكبر عدو للدبابة هو الدبابة نفسها .
فلربما سنرى مبارزة بين الدبابات الغربية والروسية الحديثة ولا سيما بين الألمانية ليوبارد2 والروسية T90 و T14 Armata .
فلمن يا ترى ستكون الغلبة ؟ ذلك أمر يتعلق بالخفة و النجاح في عدم الانغراز في وحل الأرض الأوكرانية وأيضا بكفاءة الأطقم
و قوة الأسلحة .
وإذا ما دمرت دبابات الغرب نتيجة أفضلية الدبابات الروسية أو نتيجة ما تتلقاه من المساندة الجوية التي تحصل عليها فقد يشكل ذلك دافعا ضمن أمور أخرى لظهور الطيران الغربي في سماء أوكرانيا و ربما بطيارين متطوعين أو مرتزقة ؛ فمسألة طول تدريب الطيارين التي يحتج بها حاليا الغرب للتهرب من استحقاق تزويد أوكرانيا بالطيران ، ستوضع حينها جانبا وبسرعة ؟
ولكن أية درجة من التصعيد في الحرب ستنجم عن ذلك الوضع والتحرك ؟
وإذا كانت الحرب على ضوء ما سبق غير مرشحة لحسم واضح ، فما هي خيارات الحل الممكنة بالتفاوض بحسن النية أو بدونها و بحكم ما سيفرضه الأمر الواقع من ضرورة تفادي صدام خطير ؟
و إذا استثنينا الحلول البعيدة ، الحدية الصفرية والمتطرفة كالذهاب إلى صراع نووي و كذلك هزيمة واضحة لروسيا بطردها أو اجبارها على الانسحاب من كل الأراضي الأوكرانية بما في ذلك شبه جزيرة القرم أو في الجهة الأخرى اضطرار أوكرانيا و من وراءها من الغرب بالتسليم للطلبات والشروط الروسية ، فإن الخيارات المتوقعة هي :
أولا- توقف القتال لأجل طويل عند خط هدنة معين (الحالة الكورية كما يطلق عليها البعض ) وذلك ضمن حالات افتراضية عديدة :
ا- حصول روسيا على مكاسب إقليمية معينة وكافية كالسيطرة على حدود الأقاليم التي انضمت إليها أو ضمتها بحيث توقف القتال من جانب واحد و تضطر للإذعان لذلك دولة أوكرانية منهكة لم يعد لها حول أو دعم للمواصلة ؛
ب - حصول أوكرانيا على مكاسب إقليمية مرضية كدفع روسيا إلى حدود ما قبل الحرب الحالية (حدود 24 فبراير 2022 ) مثلا و توقفها عن مواصلة القتال تحت ضغط الحلفاء أو خشية تصعيد خطير من روسيا على أن تسترد الباقي من الأرض بطرق أخرى غير القتال . و أيضا هذا السيناريو سيتطلب قبول روسيا وهي في وضع حرج به كمثل حدوث انهيار كبير في جيشها البري أو في معنوياته .
ج - فرض وقف القتال من الأطراف الدولية الكبرى الفاعلة وذلك في حالة قيام خطر ماثل بالذهاب إلى حرب نووية بشكل أكيد ؛كفرضية ما إذا أصبح الناتو طرفا رسميا في الحرب .
فطبعا لا بد من تفادي هلاك البشرية ونهاية الحضارة بسبب النزاع الأوكراني الروسي .
وهذا الحل الذي هو في الحقيقة "لا حل " بل ترحيل للأزمة نحو المستقبل و القبول بانتهاء جولة فقط ، قد يكون مرجحا لأنه لا يتضمن اتفاقات سلام أو تنازلات إقليمية بالتزامات قانونية وهو يناسب ربما الأوكرانيين على الخصوص الذين لا يرغبون في تنازلات إقليمية لا رجعة فيها لأنهم سيؤملون دوما استرداد ما فقدوا اليوم في المستقبل كما حدث مع توحيد ألمانيا بعد 45 سنة من التقسيم.
د - الوصول إلى حل وسط متفاوض عليه تسود فيه البراغماتية و الواقعية و الحقائق على الأرض و فيه تحصل تنازلات إقليمية مؤلمة من الأوكرانيين وتفاهمات متبادلة على مجمل القضايا ويحل القضية من أصلها .
وقد يتطلب هذا أن تتم التضحية بالرئيس زيلنسكي (الروس يقولون أنه ستتم تصفيته من حلفائه عند تلك النقطة ؟؟) و الإتيان بشخص أكثر استعدادا أو (اعتدالا!؟) كقائد الجيش الجنرال فاليري زالونجي الذي يعتبر ورقة احتياطية . و في هذه الحالة لا بد أن تنخرط الولايات المتحدة بقوة في المسار بل و تقوده ولو من وراء ستار من أجل الوصول إلى ذلك الحل الوسط الذي لا يحصل فيه أي طرف على كل ما يريده .
لقد أشار العجوز كيسنجر ومنذ بداية الحرب إلى مسألة جوهرية للحل وهي ضرورة التنازلات الإقليمية لصالح روسيا
و الحساسة لدى الأوكرانيين .
ولعل أفضل مبادرة قدمت إلى الآن وأكثرها واقعية وتفصيلا هي التي اقترحها رجل الأعمال إيلون ماسك والذي شنع عليه بموجبها الأوكرانيون رغم ما أعانهم به على مستوى توفير الإنترنت للاتصال (استار لينك) .
وهي مبادرة تقترح أن تترك لروسيا جزيرة القرم التي كانت دائما جزءا من روسيا ولم تضم إلى أوكرانيا إلا سنة 1954م من طرف جوزيف استالين .
وإجراء استفتاء في المقاطعات الأخرى .
ويبدو مقترح الصين الأخير ذو النقاط الإثنتا عشرة بالأمس جديا و مأخوذا في الاعتبار نتيجة مكانة ونفوذ الجهة المقدمة له لكنه بالمحصلة يصب في خانة تسمير الصراع على المواقع القتالية الحالية والدخول في مفاوضات قد لا تنتهي أو تكون مجدية .
لكن الصينيين قد وضعوا فيها طعما مهما لم ينطلي على الأكرانيين والغرب وهو الإشارة في البدء إلى النقطة المتعلقة باحترام سيادة الدول وحوزتها الترابية وهو على كل حال موقف ليس للصين إلا التأكيد عليه إذ لديها مشكلة "تايوان" و لا يمكنها فتح نافذة على اقتطاع جزء من أرض دولة ما ، حتى لا يرتد ذلك الأمر عليها لاحقا في تلك القضية المهمة والحساسة.
وهناك أمر قد يكون مسهلا لتسوية و لكن لا يمكن تسميته حلا وهو غياب الرؤساء المتورطين شخصيا في هذه القضية والتي من الصعب عليهم التفكير خارج العلبة أو أخذ مسافة التميز ما بين الشخصي والموضوعي في القضية نقصد هنا كل من الرئيس الأمريكي بايدن والروسي بوتين والأوكراني زيلنسكي . فغياب أي من هؤلاء عن المسرح لأي سبب قد يخلق ظروفا أفضل لحل تفاوضي . بالطبع مثل ذلك التأثير يبقى في حدود معينة لأن هناك جزء في مواقف الدول هو موقف المؤسسات الصلبة و الذي لا يتأثر بتغير الرؤساء لأن مواقف الدول المؤسسية من القضايا الكبرى فيها دائما تمييز بين الثابت والمتغير .
لكن لكم أن تتصوروا مع ذلك تأثير عودة اترامب للسلطة بعقليته التجارية غير المصبوغة أو المطبوعة بالأيديولوجيا كما في موقف بايدن و كذلك ميله بل حماسه الفطري لعقد الصفقات وكرهه بكل ما كا موقفا لبايدن أو إرثا شخصيا تاريخيا له .
لا يمكننا طبعا ولا يسعنا هنا الخوض في التداعيات المختلفة لكل مثل هذه الحلول والتسويات على الأطراف المختلفة كأنظمة أو كدول أو كنظام عالمي .
لقد رأينا في ثنايا هذا المقال والمقال الذي سبقه كيف تشابهت هذه الحرب الأولى في أوروبا من حروب القرن الواحد العشرين مع الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين في نفس أوروبا تلك غير أنها أيضا حرب لديها أوجه التقاء مع الحرب العالمية الثانية .
فالدعاية الروسية منذ البداية ظلت تتحدث عن محاربة النازيين في كييف والقضاء عليهم و هاهي موسكو أيضا تستعد لمواجهة دبابات ألمانية على الأرض الأوكرانية سيستخدمها أولئك "النازيون" حسب وصفها لتكتمل لنا صورة قديمة .
والمعروف أن الفوهرر هتلر الأب الروحي للنازية ومؤسس الرايخ الثالث كان قد أطلق عملية غزو واسعة النطاق تحت إسم بابرباروسا ( تيمنا بإسم الامبراطور الألماني فريدريك الأول بارباروسا ) في 22 يونيو 1941م ضد الإتحاد السوفيتي و هي حملة شارك فيها ذلك الحين ما مجموعه 4.5 مليون جندي من قوات المحور ، من ضمنهم ما يزيد على 3 ملايين جندي ألماني في جبهة طويلة تمتد على مسافة 2900 كم انطلاقا من بحر البلطيق في الشمال وحتى البحر الأسود في الحنوب .
و في اندفاعتها الهجومية الأولى نجحت قوات مجموعة الجيوش الجنوبية الألمانية بقيادة الفيلد مارشال فلهلم ريتر فون ليب والمشكلة من أربعة جيوش (فيالق ) ألمانية هي :
الجيش 6 و الجيش 11 و الجيش 17 مع الجيش الأول للبانزر (دروع ) مع أسطول جوي كامل (جيش جوي) إضافة لبعض الحلفاء من دول المحور ولا سيما من الرومانيين بالوصول إلى فولغاغراد (استالينغراد) متجاوزة ومحتلة كامل الأراضي الأوكرانية وذلك بعد مواجهات دامية مع قوات الإتحاد السوفيتي على أديم نفس أراضي و مدن المواجهة الحالية والتي روتها حينها داخل الخندق الواحد نفس دماء الأوكرانيين والروس ،أولئك الأشقاء السلاف الأرتودوكس ذوي المذهب الديني و التاريخ الطويل المشترك و لا في مدينة "كييف" تلك نفسها التي يعتبرونها ميراث مشتركا .
و اليوم يعيد التاريخ نفسه بشكل مشتبه وغير متشابه مع ذلك حيث ستتواجه من جديد دبابات ألمانية مع الدبابات الروسية على نفس الميدان الأوكراني لكن مع فارق
لافت وهو أن البريطانيين و الأمربكيين الذين كانوا سنة 1941م في نفس صف القتال مع الروس والأوكرانيين ضد ألمانيا ، ستسير دبابات ثلاثتهم جميعا جنبا إلى جنب ومع الأوكرانيين اليوم وكلهم ضد روسيا و دائما على أديم نفس الأرض الأوكرانية .
مع ذلك لا يعتبر الروس الألمان هم أسوء خصومهم في المواجهة الحالية فهم إذا كان لهم أي يضربوا الغرب بالنووي فستكون الصواريخ أو الطوربيدات النووية الأولى من نصيب بريطانيا ثم بولندا وربما أيضا بعض الأهداف الصغيرة الأخرى الأقل شأنا و لكنها مجاورة لروسيا مع ذلك ألا وهي جمهوريات البلطيق العدائية :
ليتوانيا وإستونيا ولاتيفيا .
تبدو حرب روسيا وأوكرانيا حتى الآن صراعا مليئا بالعبر والدروس و هو لحظة تسارع تاريخي رهيبة بل يكاد أن يكون الحال كمرجل يغلي لإنضاج عالم ما بعد نظام الحرب العالمية الثانية وقرن التفرد الأمريكي أي قيام نظام تعدد الأقطاب وهو ما إن سمح الوقت والفرصة قد يصير موضوع الحلقة الثالثة والأخيرة من سلسلة هذه المقالات حول الذكرى الأولى لهذا الصراع الدولي الشرس.
....يتبع
السلام عليكم
مواد ذات صلة: