·
قبل يومين وفي أحد المطارات الاوروبية، كنت أحث الخطى مسرعا نحو البوابة استعدادا للإقلاع، اعترض طريقي رجل خمسيني حسن المظهر تدل قسمات وجهه على أنه ليس محدث نعمة، سلم على قائلا هل أنت مصري فرددت السلام وأجبت بالنفي فأعقب بالسؤال التقليدي من أين أنت إذا فقلت من موريتانيا فرد قائلا " أحسن ناس" وهو الرد المصري النمطي المألوف الذي ما كان ليتغير حتى لو قلت إنني من أصحاب الأيكة أو قوم تبع.
قال وهو يشير إلى رجل غير بعيد، أنا وأخي في طريقنا إلى نيويورك وحدثت مشكلة في تذكرتينا فاحتجنا مبلغ 450 دولارا نقدا سحبنا منها مائتان بالبطاقات وعلينا انتظار 24 ساعة لنتمكن من استخدام بطاقتينا لذلك أريد منك أن تعطيني 250 دولارا وسأحولها لحسابك، ساهمت الملامح النبيلة للرجل في إظهار حرجه الواضح وهو يطلب النقود - كما يبدو لأول مرة- من شخص غريب.
الحقيقية أنها ليست أول مرة يعترض طريقي مسافر وقع - كما يقول - في مشكلة مع اختلاف السيناريوهات، لقد عودني العبور سنوات عديدة عبر عشرات المطارات على مقابلة أنواع المحتالين من محترفي الشحاتة القادرين على تأليف قصص ذات حبكة درامية مقنعة وهو ما منحني مناعة ضد التأثر بتلك القصص.
لم تستطع ملامح الرجل ولا اسلوبه كسر حاجز "سوء النية" تجاه محترفي التسول من النصابين وما أكثرهم، قلت له معتذرا وأنا أبتعد: للأسف لا أستطيع مساعدتك،
لن أنسى ملمح الألم ونظرة الانكسار الذين ارتسما على وجهه، ذلك الوجه الذي سكب ماءه دون طائل أمام عابر مجهول.
بعد أن ابتعدت قليلا عن الرجلين راودني شعور بالندم فتوقفت مكاني وقلت لنفسي لم لا أمنح الرجل المبلغ الذي طلب حتى لو لم يرده الي، لكن هاتفا داخليا نهرني قائلا، يالك من أحمق ساذج، سيأخذ منك المبلغ وما إن توليه ظهرك حتى يهمس في اذن صديقه قائلا لقد وقع الغبي في الشرك ويكرران نفس الخطة مع أول مغفل آخر يمر بجانبهما.
شكل شعوري باحتمال أن يستغبيني الرجل قوة دافعة جعلتني اهرول نحو البوابة ولا التفت قبل ولوج الطائرة.
أثناء الرحلة وأنا اتنقل بين قنوات اليوتيوب وقعت عيني على عنوان يقول: السلطات المصرية تحدد المبلغ النقدي المسموح بسحبه بالبطاقة من العملة الصعبة ب 100 دولار امريكي يوميا، وفي التفاصيل أن كثيرا من المصريين تضرروا من هذا الاجراء غير المنصف والذي يقيد حرية الشخص في التصرف في أمواله الخاصة. تذكرت ما قاله الرجل عن قيد السحب وعن استعداده لتحويل المبلغ الى حسابي، حاولت التخلص من شعوري بالذنب والتقصير في حق الغريب المضطر، لكن حجم الألم الناتج عن الندم العميق كان أقوى من أن يزول بفعل بتبريرات غير مقنعة، تمنيت لو أن الزمن عاد بي إذا لتصرفت بطريقة أخرى لكن هيهات فعقارب الزمن لا ترجع أبدا إلى الوراء.