لا تذكر البطولة والشجاعة والقتال والنزال إلا ومعها عنترة بن شداد؛ أما إنْ أراد بعضنا الحديث عن العشق والغزل فعلى الفور تُستدعى أشعار "أبي الفوارس" وغزله العفيف في محبوبته "عبلة" رغم مرور مئات السنين عليها، لتجتمع الفصاحة والفروسية في رجل واحد.
وفي إطار الاحتفاء بالقيمة الثقافية لهذا الشاعر العربي، نظمت وزارة الثقافة السعودية مهرجانا تحت عنوان "مهرجان عنترة الثقافي" وذلك في موطنه بـ "عيون الجواء" في منطقة القصيم، خلال الفترة من 27 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
ويأتي تنظيم "مهرجان عنترة الثقافي" ضمن مسار الشعر العربي، والذي تحتفي وزارة الثقافة من خلاله بالأسماء الرائدة والمؤسِّسة للثقافة العربية، وخاصة تلك التي ظهرت من قلب الجزيرة العربية، وكان لها تأثير في مسيرة الإبداع العربي منذ العصور الأولى، وذلك بهدف إحياء مكانتهم الثقافية عبر قوالب مبتكرة تُسهم في تعزيز حضورها في الحياة المعاصرة.
وخلال أيام المهرجان السبعة، عاش زواره في رحلة ثقافية متكاملة سلطت الضوء على قيمة هذا الشاعر العربي، وقصته مع محبوبته "عبلة" التي وثقها في معلقته الشعرية، إلى جانب لمحة من حياته وفروسيته وشجاعته.
المهرجان تضمن أقساما متنوعة، ابتداء من موقع "صخرة عنترة" وهي مسار رقمي للتعريف بمعلقة عنترة ودور المكان في الإلهام الشعري، وعلاقته بمحبوبته.
رحلة ثقافية
وتقع "صخرة عنترة" في عيون الجواء بمنطقة القصيم، وهي ذات نقوش ثمودية ورسوم صخرية لأشكال حيوانية، وسميت بذلك لأنها كانت من أبرز شواهد حياة عنترة وابنة عمه، وتعد هذه الصخرة أحد أهم معالم المسار السياحي المعتمد في منطقة القصيم ضمن مسارات التراث الأدبي.
كما كان زوار المهرجان على موعد مع المعرض التفاعلي "ديارة عنترة" الذي يسلط الضوء على محطات ثقافية من حياة الشاعر التي كان لها تأثيرها البالغ في الثقافة العربية.
أما في قسم "عنترة في شعر العرب" فقد قام عدد من الممثلين بتقديم قصائد عنترة في سوق عكاظ للشعراء والأدباء، وشهد قسم "معارك عنترة" تجسيدا أدائيا لمعركة من معارك عنترة مع سرد صوتي لحماسته وبطولاته ووصفه للخيل والرماح والسيوف.
وتنتهي رحلة زوار مهرجان عنترة الثقافي بالمنطقة المفتوحة، والتي تحتضن مجموعة من الفعاليات الأخرى التي تتضمن العديد من الصور الفوتوغرافية لصخرة عنترة ومواقع من حياته وقصائده المشهورة.
ويقول الكاتب والناقد السعودي عبد الهادي صالح إن عنترة بن شداد -الذي عاش بين الفترة 525 -608- يعد شاعرا وفارسا اشتهر بمعلقته الشهيرة "الذهبية" والتي بدأها بوصف الفراق، وعرّج على ذكر محبوبته "عبلة" ثم وصف شجاعته وفروسيته وهزيمة أعدائه، لافتا إلى أن هذه المعلقة نظمها عنترة تحديا ومن أجل إثبات وجوده ومكانته وشاعريته، حيث تميزت شخصيته بالشجاعة والإقدام والاحترام والعشق العفيف.
إحياء جديد
ويوضح صالح -في تصريح للجزيرة نت- أن عنترة كان يصنف من أقوى الرجال في عصره وأشدهم بأسا، وينتمي لشعراء المعلقات في تاريخ الأدب العربي.
ويشير الناقد إلى أن مهرجان عنترة الثقافي يمثل إحياء جديدا لشعر عنترة وبعثا ثانيا لسيرته المليئة بالنضال والحب والنزال، سواء من أجل نيل حريته والتخلص من عبوديته التي ورثها عن أمه "زبيبة" أو الفوز بقلب محبوبته وابنة عمه "عبلة".
ويقول إن الشجاعة التي اشتهر بها عنترة انعكست بشكل واضح في أشعاره، حيث صور هذه البطولات في شعره ورسم في قصائده المتنوعة صورة الفارس بكل ما فيه من صفات وأخلاق حسنة، وأظهر ما تحلى به من شجاعة وإقبال على القتال بدون خوف أو وجل، لافتا إلى أنه يهدف من ذلك إلى إبراز نفسه وشخصيته، وتأكيد فكرة حريته وجدارته بها، وكان حبه لعبلة الدافع القوي الذي يحاول من خلاله إثبات وجوده وشخصيته.
مهرجان عنترة الثقافي يمثل رحلة ثقافية متكاملة سلطت الضوء على قيمة الشاعر العربي (واس)
ويرى الناقد الأدبي أنه -إلى جانب الشجاعة التي احتلت مساحة كبيرة في شعر عنترة- فإن فكرة التعفف ظهرت بقوة في قصائد "أبي الفوارس" مشيرا إلى أنه في الوقت الذي كان يعتقد فيه مقاتلو ذلك الزمان أن الحروب لكسب الغنائم، فإن عنترة كان يتعالى عن هذه الغايات لأنه كان يشارك بها من أجل الحروب نفسها، وليس لأجل الغنائم والمكاسب تاركا هذه الأمور لغيره من المحاربين.
خصائص أدبية مميزة
من جهته، يقول الشاعر المصري محمد الفؤاد إن الموضوعات التي تناولتها أشعار عنترة تنوعت بين الذاتي والقبلي، بينما قل عنده غرض المدح والرثاء، في الوقت الذي كان فيه الغزل من أكثر الأغراض استخداما في شعره.
ويضيف أن غزله العفيف في عبلة طغى على باقي الأغراض في معلقته الشهيرة التي تشتمل على البكاء على الأطلال ووصف حبيبته والحديث عن الناقة، ثم الانتقال إلى مشاهد الحرب والفخر بنفسه وذكر مواقف شجاعته، وينهيها بالتوعد لمن سبه.
ويشير الفؤاد -في تصريح للجزيرة نت- إلى أن نظم عنترة لمعلقته الشهيرة جاء بعدما عاب عليه رجل سواد بشرته وبشرة أمه، كما عاب عليه نظمه للقصائد القصيرة فحسب، فكان ذلك دافعًا لعنترة للرد عليه في معلقته التي نظمها في 75 بيتا.
كما يشير الشاعر إلى أن عنترة يتمتع بعبقرية شعرية، وأخلاق سامية، أفضل بكثير من شعراء العرب آنذاك الذين تلوثت قصائدهم بالمفردات البذيئة، والعبارات الفاحشة، فضلا عن حرصه على الدفاع عن أهله ومراعاة حقوق الجيران والالتزام بالأعراف، عكس الكثير من شعراء عصره الذين نضحت أشعارهم بالوصف الحسي لمفاتن المرأة، بينما زين عنترة أشعاره بمعاني الشجاعة والشهامة والمروءة.
ويستشهد فؤاد باحترام عنترة لحقوق الجار التي أيدها الإسلام حيث يقول:
أغشى فتاة الحي عند حليلها / وإذا غزا في الجيش لا أغشاها
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي / حتى يواري جارتي مأواها
إني أمرؤ سمح الخليقة ماجدٌ / لا أتبع النفس اللجوج هواها
كما يرى أن الفخر من أبرز الأغراض الشعريّة عند عنترة، معتبرا أنها كانت من أسلحته في معركته العنيفة من أجل انتزاع حريته وإثبات نسبه والرد على أعدائه.
صخرة عنترة كانت من أبرز شواهد حياة شاعرنا العربي القديم (واس)
ويشير إلى أن عنترة كان يستعين بشعر الفخر للتعويض عن عقدة السواد التي لازمته من أجل تأكيد حقه في الحرية، فقدم نماذج شعرية عدّة أظهر فيها صورة الفارس الشجاع المنتصر الذي ينتمي لقبيلته ويتمسك بقضاياها.
أما أكثر ما اشتهر به عنترة فهو الغزل العفيف قولا وفعلا -بحسب المتحدث نفسه- مشيرا إلى أن غزل عنترة نموذج للغزل العفيف الذي يصدر عن شاعرٍ يتمتع بأخلاق رفيعة، حيث كانت تذوب في أشعاره العاطفة القوية الصادقة، وتبرز فيها أشواقه العميقة ولوعته للقاء عبلة، فهو لا ينساها في كل حالاته سواء في الحرب أو السلم، فكان يقتحم ساحات القتال بكل شجاعة وبطولة مستقبلا الموت من أجل أن يحظى برضاها وبقلبها.
المصدر : الجزيرة + الصحافة السعودية + مواقع التواصل الاجتماعي