- سمية نصر
- بي بي سي نيوز عربي
عند الحديث عن رموز حركة الحرية المدنية ومناهضة العنصرية في الولايات المتحدة، ربما كانت أكثر الشخصيات التي تتبادر إلى الذهن القس مارتن لوثر كينغ - فمن منا لم يشاهد أو يقرأ نص خطابه الشهير الذي ألقاه خلال المسيرة التي خرجت في واشنطن عام 1963 احتجاجا على التمييز العنصري ضد الأمريكيين من أصول أفريقية، والذي تضمن عبارة "لدي حلم" الأيقونية.
ولكن بالطبع كان هناك الكثير من الشخصيات الأخرى ذات البصمات المؤثرة في تاريخ تلك الحركة. من بين تلك الشخصيات سيدة تدعى روزا باركس، أدى "تصرف بسيط" قامت به ذات يوم على متن حافلة بولاية ألاباما إلى إلهاب جذوة مقاومة قوانين الفصل العنصري في الولايات المتحدة والإسراع بإلغائها.
من هي روزا باركس؟
ولدت روزا باركس في 4 فبراير عام 1913 في مدينة تاسكيغي بولاية ألاباما، وكان أبوها عامل بناء ونجارا ماهرا يدعى جيمز ماكولي، وأمها مدرسة تدعى ليونا إدواردز ماكولي. انفصل أبواها وهي في عامها الثاني، وانتقلت مع والدتها وأخيها الأصغر للعيش في مزرعة جديها لأمها بالقرب من مدينة مونتغومري.
خلال مرحلة الطفولة، تلقت باركس جزءا كبيرا من تعليمها في المنزل على يد والدتها التي عملت كمعلمة بإحدى المدارس المحلية المخصصة للأمريكيين من أصول أفريقية، كما درست روزا لبعض الوقت في المدرسة ذاتها.
لم تكن حياتها في المزرعة مثالية على الإطلاق، فقد كانت جماعة "كو كلوكس كلان" العنصرية المتطرفة تشكل خطرا مستمرا على أصحاب البشرة السوداء، وقد تحدثت لاحقا عن قيام تلك الجماعة "بحرق كنائس السود ومدارسهم وجلدهم وقتلهم".
ولطالما سهر جدها ليلا لحراسة المنزل تحسبا لهجمات محتملة يشنها متطرفون بيض. وفي الليالي التي كان يخالها شديدة الخطورة، كان أفراد الأسرة يضطرون إلى الذهاب إلى الفراش وهم يرتدون كامل ملابسهم حتى يكونوا متأهبين للفرار من المنزل إذا استدعى الأمر.
بسبب مرض والدتها، انقطعت باركس عن الذهاب إلى المدرسة وهي في سن السادسة عشرة لكي تتمكن من رعايتها، ومن ثم لم تحصل على شهادة الثانوية وتصبح مدرسة كما كانت ترغب.
في عام 1932، تزوجت روزا من ريموند باركس، الذي كان حلاقا وناشطا في مجال الحقوق المدنية، وهي في التاسعة عشرة من عمرها. عملت كخياطة ملابس لبعض الوقت، كما شجعها زوجها على العودة مرة أخرى إلى المدرسة والحصول على شهادة الثانوية العامة.
ألقي القبض على باركس بعد رفضها التخلي عن مقعدها لراكب أبيض
قوانين جيم كرو
خلال القرن التاسع عشر الميلادي، صدرت في بعض الولايات الأمريكية مجموعة من القوانين التي أطلق عليها اسم قوانين جيم كرو. كانت تهدف تلك القوانين إلى ضمان أن تظل حياة الأمريكيين البيض والسود "منفصلة ولكن متساوية"، وكان هناك فصل في كافة فضاءات الحياة العامة ومرافقها، كالمدارس والكنائس والمحلات التجارية، بل وحتى المصاعد وصنابير مياه الشرب. لم تكن هناك مساواة على أرض الواقع، بل عانى الأمريكيون من أصول أفريقية من تفرقة شديدة نتيجة ذلك الفصل العنصري.
كان من الطبيعي أن يستاء كثيرون من الظلم المترتب على تلك القوانين ويرغبون في مقاومتها وتحقيق المساواة للجميع. من بين المنظمات التي تأسست لهذا الغرض الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، والتي انضمت روزا باركس وزوجها ريموند إلى عضويتها، وعملت سكرتيرة لفرعها بمونتغومري حتى عام 1956. وصارت الحركة من أجل تحقيق العدالة والمساواة تعرف باسم "حركة الحقوق المدنية".
كانت وسائل النقل العام من بين المرافق التي يطبق فيها الفصل العنصري. ووفقا لقانون مدينة مونتغومري، كان يتعين على الرجال والنساء والأطفال من أصول أفريقية الجلوس في المقاعد الخلفية للحافلات. كما كان يجب عليهم التخلي عن مقاعدهم لصالح الركاب البيض إذا لم يتبق أي مقاعد خالية في المقدمة.
"تصرف بسيط" يشعل المقاومة
في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 1955، كانت روزا باركس تجلس في أول صف من المقاعد الخلفية المخصصة للسود عندما صعد بعض الركاب البيض على متن الحافلة، طلب السائق منها هي وثلاثة ركاب سود آخرين التخلي عن مقاعدهم لكي يجلس فيها الركاب البيض. انصاع الركاب الثلاثة الآخرون، ولكن باركس رفضت.
اعتُقلت وطُلب منها دفع غرامة 10 دولارت عقابا لها على انتهاك القانون، و4 دولارات أخرى لسداد مصروفات المحكمة. لكنها رفضت ذلك أيضا، قائلة إن القانون كان جائرا. وبدلا من ذلك، قبلت عرض إي.دي. نيكسون، رئيس فرع جمعية النهوض بالملونين في مونتغومري لاستئناف الحكم الذي صدر بإدانتها، والطعن في قوانين الفصل العنصري في ألاباما.
عن سبب رفضها التخلي عن مقعدها في ذاك اليوم، كتبت باركس في سيرتها الذاتية: "فاض بي الكيل من المعاملة القاسية التي كنت أتعرض لها. كنت شخصا عاديا مثلي مثل الآخرين. كانت هناك مرات قليلة في حياتي عاملني فيها أشخاص بيض كأنني شخص عادي، لذا كنت أعرف ذلك الشعور. أحسست حينها بأن الوقت قد حان لكي يعاملني باقي الأشخاص البيض بنفس الطريقة".
"لم أكن أتخيل أنني عندما رفضت التخلي عن مقعدي أن تصرفي البسيط ذلك سيساعد في إنهاء الفصل العنصري في الجنوب".
ولكن هذا هو ما حدث بالضبط.
فقد أدرك زعماء الحقوق المدنية في ذلك الوقت، وعلى رأسهم مارتن لوثر كينغ، أن ذلك الحدث كان يشكل فرصة مهمة ينبغي استغلالها. دعا هؤلاء الزعماء كافة الأمريكيين من أصول أفريقية إلى مقاطعة حافلات مونتغومري العامة دعما لروزا باركس واحتجاجا على الظلم الذي يستبب فيه الفصل العنصري.
انتشرت الدعوة من خلال توزيع منشورات ورقية تطالب المواطنين السود ببدء المقاطعة في الخامس من ديسمبر/كانون الأول. وشكل الناشطون "رابطة تحسين مونتغومري" لتنظيم المقاطعة.
مثل ذلك تحديا كبيرا لشركة الحافلات، إذ كان نحو 70 في المئة من مستخدميها من السود، ومن ثم فإن مقاطعتهم كان من شأنها التسبب في خسارة فادحة لعائدات الشركة.
لكنه كان تحديا أكبر للركاب أنفسهم. فقد اضطر بعضهم إلى المشي مسافة تزيد عن 30 كيلومترا ذهابا إلى مقار أعمالهم وإيابا منها.
كان اليوم الأول للمقاطعة ناجحا، وفي المساء، ألقى مارتن لوثر كينغ كلمة أمام الحشد الذي تجمع بإحدى الكنائس، قائلا إن "عظمة الديمقراطية الأمريكية الرائعة تتمثل في الحق في التظاهر من أجل الحق".
برز كينغ كقائد للمقاطعة، وتلقى العديد من التهديدات بالقتل. بل إن منزله تعرض للتفجير، ولكنه نجا هو وعائلته ولم يلحق بهم أذى.
استمرت المقاطعة لأكثر من عام، وشارك فيها أيضا أشخاص من خارج مونتغومري، ونُظمت احتجاجات على التفرقة في المطاعم وحمامات السباحة وغيرها من المرافق العامة في شتى أنحاء الولايات المتحدة.
روزا باركس تجلس على متن إحدى الحافلات بعد صدور قرار المحكمة العليا ببطلان قوانين الفصل العنصري في ألاباما
الانتصار الأول
أتت المقاطعة التي كان تصرف باركس مصدر إلهام لها بثمارها، حيث أصدرت المحكمة العليا الأمريكية قرارا في 13 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1956 يقضي بعدم دستورية قوانين الفصل المطبقة في مونتغومري وولاية ألاباما بشكل عام، إذ اعتبرتها انتهاكا للفقرة التي تنص على "المساواة في الحماية" من التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي.
في 20 ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، أصدر مارتن لوثر كينغ بيانا يعلن فيه انتهاء مقاطعة حافلات مونتغومري ويحث المواطنين السود على استئناف ركوبها.
انتهت المقاطعة بالفعل في اليوم التالي، وكانت روزا باركس من بين أوائل المواطنين من أصل أفريقي الذين استقلوا حافلات المدينة بعد إنهاء الفصل العنصري على متنها.
واعترافا بدورها في إشعال شرارة أول احتجاج واسع النطاق ضد التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة، صارت روزا باركس تلقب بـ "أم حركة الحقوق المدنية".
أحرز مارتن لوثر كينغ والحركة المسالمة التي تزعمها انتصارهما الأول - والذي تبعه العديد من الانتصارات لحقوق السود في أمريكا.
روزا باركس ومارتن لوثر كينغ
"لم أصل إلى مرحلة السعادة بعد"
زعمت بعض الروايات أن باركس رفضت التخلي عن مقعدها لأنها كانت متعبة بعد يوم عمل شاق، وليس احتجاجا على المعاملة الظالمة للسود.
وقد ردت روزا باركس على ذلك عندما كتبت في سيرتها الذاتية: "لم أكن متعبة من الناحية الجسدية، أو متعبة أكثر من المعتاد بعد انتهاء دوام عملي. لم أكن عجوزا حينها، رغم أن صورتي في أذهان بعض الناس هي صورة سيدة عجوز. كان عمري آنذاك 42 عاما. لا، لقد كنت أشعر بالتعب والسأم من التنازل عن حقوقي".
لم تكن روزا السيدة الوحيدة التي رفضت التخلي عن مقعدها للبيض، بل سبقتها أخريات، وعلى رأسهن كلوديت كولفين التي فعلت الشيء ذاته في وقت سابق من عام 1955، وكان عمرها لم يتجاوز الـ 15 عاما.
لكن بسبب كونها سكرتيرة جمعية النهوض بالأشخاص الملونين وإحدى عضواتها، وبسبب وقوف نشطاء حركة الحريات المدنية إلى جانبها، ذاعت قضيتها بشكل لم يكن ليتحقق للسيدات والفتيات الأخريات اللاتي سبقنها، وكانت قضيتها هي التي أجبرت مدينة مونتغومري على إنهاء التفرقة على متن حافلاتها.
ظلت باركس عضوة نشطة في الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، ودعمت حركة الحقوق المدنية في مدينة ديترويت بولاية ميتشيغين التي انتقلت للعيش بها هي وزوجها في عام 1957. وعملت بين عامي 1965 و1988 لدى عضو الكونغرس جون كونيرز، حيث كانت تساعد المشردين في الحصول على مساكن.
كما أسست مع زوجها في عام 1987 "معهد روزا وريموند باركس لتنمية الذات"، والذي كان يهدف إلى توفير فرص في مجالي التعليم والعمل للشباب، ولا سيما هؤلاء من ذوي الأصول الأفريقية.
ورغم ذلك، لم تكن باركس راضية عما تحقق، إذ كانت ترى أن الولايات المتحدة لا تزال تخفق في حماية واحترام أرواح مواطنيها السود.
وقد اغتيل مارتن لوثر كينغ الذي لفت انتباه البلاد إلى نشاطه من خلال تنظيمه لمقاطعة الحافلات بمونتغومري، بعد مرور أقل من 10 سنوات على تلك المقاطعة.
روزا باركس مع نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور بعد حصولها على ميدالية الكونغرس الذهبية عام 1999
في واحدة من آخر المقابلات الإعلامية التي أجريت معها، قالت باركس: "أبذل قصارى جهدي لكي أنظر إلى الحياة بعين التفاؤل، وأتطلع ليوم أفضل. لكنني لا أؤمن بوجود شيء اسمه السعادة الكاملة. يؤلمني أنه لا يزال هناك الكثير من أنشطة جماعة كو كلوكس كلان والكثير من العنصرية. أعتقد أنه عندما تقول إنك سعيد فإن ذلك يعني أن لديك كل شيء تحتاجه وكل شيء تريده، ولم يعد هناك ما تتمناه. لم أصل إلى هذه المرحلة بعد".
حصلت باركس في عام 1999 على ميدالية الكونغرس الذهبية، وهي أعلى وسام شرف يعطى للمدنيين في الولايات المتحدة اعترافا لما قدموه من خدمات جليلة للبلاد.
وبعد وفاتها في 24 أكتوبر/تشرين الأول عام 2005، أصدر مجلس الشيوخ بالكونغرس الأمريكي قرارا يقضي بتكريمها من خلال وضع جسمانها في القاعة المستديرة بمبنى الكابيتول، حيث ألقى الزوار نظرة الوداع عليه على مدى يومين. وكانت باركس أول سيدة وثاني شخص أسود يحظى بذلك التكريم في الولايات المتحدة.