نواكشوط - صحراء ميديا:
عايش سكان نواكشوط خلال العقدين الأخيرين سائق «تاكسي» غير تقليدي، له طريقته المميزة والملفتة في اختيار الملابس، يضعُ طاقيته المزركشة، ويحدث الركاب عن المدنية والدين والأخلاق والقيم، فيحول كل رحلة قصيرة في شوارع نواكشوط إلى درس في التاريخ والسياسة وسبل نهضة الشعوب.
وحين تنتهي الرحلة يقول عبارته الأثيرة، وهو يودعُ ركابه أو طُلابه على الأصح: “اسمي اعل ولد عبد الله ولد ابريهمات، أحد سكان أطار، ورجل مؤمن بالوطن”.
يجوب ولد ابريهمات شوارع نواكشوط، جاعلًا من “التاكسي” المتواضع وسيلة لنشر قيم المدنية والمواطنة.
أمس توقفت رحلته.. لقد توفي سائق التاكسي “المفكر”، فبكاه جميع الموريتانيين.
كان الرجلُ فريدًا في مواقفه وتصرفاته، لديه قدرة كبيرة على لفتِ الانتباه، ومن ذلك طريقته الغريبة في الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال الوطني، حين يحتفلُ وحده مرتديا الزي العسكري، يحملُ العلم الوطني وينظم مسيرة راجلة وحيدًا، على شارع المختار ولد داداه، في قلب نواكشوط.
يشرحُ هذا الاحتفال، بأنه تكريم للرئيس الراحل وأب الأمة، الذي لو حكم موريتانيا 50 عاما مثل الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة، لتغيرت الأحوال، كما يقول ولد ابريهمات.
عايش الراحل الدولة منذ الاستقلال، وهو أحد أبناء مدينة أطار العتيقة، زاولت أسرته غرس النخيل من ظهر “آدرار” حتى باطنه، كانت تعمر غابة تسمى “آفدنات أهل ابريهمات” ومع قدوم المستعمر بداية القرن التاسع عشر، استبعدت عائلة اعل ولد ابريهمات لعدم دفعها الغرامة للوافدين الجدد.
هكذا يحكي ولد ابريهمات حكاية أسرته، التي هي حكايته، وهو يقلب أكمام دراعته، وقد انتفخت أوداجه غضبا على واقع يسعى لتغييره حتى بموعظة قصيرة، قصر المشوار.
ينتقد القبيلة ويعتقدُ أنها “عائق أمام نهضة الدولة”، ويضيف أن القبيلة “تطحن الإنسان الذي يخرجُ عليها، وتشوهه وتتقول عليه، وهي مبنية على الأحقاد”.
تبدو أفكاره بسيطة في لغتها، ولكنها في غاية العمق والطرافة، ولا يفوت الفرصة لنقد الأجيال الجديدة التي يقول إنها “لم تترب على الوطنية، ولم تعمل بالقرآن”، ويذهب لعقد المقارنات متحدثًا عن جيله: “كانوا يربوننا على الخطابة والفنون الجميلة، الآن يقتلون فينا الأفق ونحن صغار، تكون نظرتنا للكون كما يريدون”.
يحاضر المفكر والأستاذ -كما يلقبه ركاب سيارته- عن خطورة التكبر في مجتمع صغير لا يبلغ تعداده 4 ملايين نسمة، وينتقد ناهبي المال العام، يصف منازلهم الفخمة وسياراتهم المليئة بالبنزين كالريق في الفم، لولد ابريهمات مفاهيم خاصة للإسلام ويرى أن الموريتانيين لم يعملوا بروحه، بينما عمل الغرب بروحه ونهض.
يصف الانتخابات والديمقراطية ببيع الوهم، ويرى أن قطار العالم اليوم لا ينتظر أحدا، لا قبيلة شريفة أو غير ذلك، كما يرى أن الإنسان ثعلب نفسه، ويفضلُ وجود ثعلب واحد يقود ألف أسد من ألف ثعلب يقودها أسد واحد، ينصح بالقراءة وفهم الإسلام بطريقة صحيحة.
رسائله مختصرة وأفكاره مبسطة، لأنها وليدة رحلات قصيرة وسريعة، بين أحياء نواكشوط، وبالتالي طور الرجلُ مهارة إيصال فكرته بسرعة ودون تعقيد، ومع قدر كبير من الحكمة والطرافة، خاصة حين ينتقد المسلكيات المجتمعية، كتخلي الشباب عن واحات النخيل وعزوفهم عن المحظرة.
بصفة مفاجئة رحل ولد ابريهمات في صمت، غابت حكمه كما يغيب دخان سيارته العتيقة وسط الزحام، غاب أشهر سائق تاكسي في نواكشوط، ودفن في مقبرة “لكصر”، وتيتم جيل كاملٌ عاش على نصائح ولد ابريهمات.