لا بد أنك تتذكَّر أحد إعلانات السمن النباتي، تلك التي ترسم البسمة على وجه ربة المنزل، وتجمع شمل الأسرة كلها على طاولة طعام شهية. لِمَ لا والشركات تتبارى في تلميع الدهون والزيوت النباتية، ليس فقط بوصفها مصدرا صحيا وشهيا للدهون، بل وأكثر فائدة من الدهون الحيوانية المشبعة المشتقة من منتجات الألبان مثل السمن البقري.
يمكن القول إن الإعلانات نجحت لسنوات طويلة، بالتكاتف مع توصيات بعض المؤسسات العلمية، في شيطنة الدهون الحيوانية المشبعة ووضعها متهما رئيسيا وأحيانا وحيدا في ارتفاع معدلات السمنة وأمراض القلب ومرض السكري خلال القرن العشرين. على الجانب الآخر، تصدَّرت الزيوت النباتية المشهد الطبي لأكثر من قرن، على أساس أنها ترفع من نسبة "الكوليسترول الجيد" في الجسم، وتخفض من نسبة "الكوليسترول السيئ"، وبالتالي تُقلِّل من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والسمنة، وبذلك تُعَدُّ خيارا أفضل من الدهن الحيواني.
قد تشعر بالاطمئنان وأنت تأخذ زجاجة زيت الذرة وتضع مقدارا في المقلاة لطهي البيض، وقد تشعر بالراحة وأنت تقرأ مكونات الجبن الأبيض الذي اشتريته للتو ويحتوي على "دهن نباتي"، لكنك مخطئ بالتأكيد إذا فعلت هذا!
عائلة الدهون
الدهون من العناصر الغذائية الأساسية في تكوين الإنسان، مثلها مثل البروتين والكربوهيدرات والفيتامينات. تعمل الدهون عازلا لوقاية الجسم من التغيرات الحرارية الخارجية، ولها مآرب أخرى، فهي كذلك مصدر غني بالطاقة، حيث يحتوي الغرام الواحد منها على ضِعْف السعرات التي يحتويها غرام واحد من الكربوهيدرات، لذا فإن تخزين الطاقة على هيئة دهون يوفر للجسم مصدرا ثريا للسعرات في حالات الطوارئ ونقص الطعام، أو حتى الصيام (1).
تتكوَّن الدهون من سلاسل تُسمى "الأحماض الدهنية"، واجتماع ثلاث من هذه السلاسل مع سلسلة قصيرة من مُركَّب آخر يُخرج لنا "الدهون الثلاثية" (Triglycerides) الشهيرة في التحاليل الطبية. تنقسم هذه الدهون بدورها إلى دهون "مشبعة"، وتجدها في الحالة الصلبة في درجة حرارة الغرفة، مثل الزبد والدهن الحيواني، ودهون "غير مشبعة"، وتوجد في حالة سائلة أي على هيئة زيوت (2).
الأحماض الدهنية المشبعة وغير المشبعة (Wikimedia Commons)
تنقسم الدهون غير المشبعة إلى "أحماض دهنية أحادية غير مشبعة"، وأشهرها زيت الزيتون، و"أحماض دهنية متعددة غير مشبعة"، والموجودة في معظم الزيوت النباتية المستخدمة في الطعام التي تجدها في السوق. الدهون غير المشبعة سائلة في حالتها الطبيعية، ولكن يمكن تحويلها إلى مادة شبه صلبة بعملية "الهدرجة" لتتحوَّل إلى سمن أو زبد نباتي مهدرج ذي قوام ملائم أكثر للاستخدام في المخبوزات والبسكويت. (3)
ميلاد زيت الذرة
بدأ الأمر تحديدا عام 1899، عندما ظهر أول زيت نباتي مستخلص من بذور الذرة وصالح للاستهلاك الآدمي، من إنتاج مطاحن شركة "هادنات" الأميركية، بديلا رخيصا للزبد الحيواني غالي الثمن وقصير العمر، الذي لم يكن البشر يعرفون غيره قبل ذلك التاريخ (4). كان زيت الذرة -ولا يزال- اختراعا ثوريا غيَّر وجه العالم بأكمله، وغيَّر الطريقة التي يطهو بها البشر طعامهم منذ اختراع الطهي، بل وغيَّر من الإرشادات الصحية لأرقى المؤسسات الطبية العالمية، وتربَّع على عرش الدهون الصحية حتى يومنا هذا. منذ عام 1961، تُوصي جمعية القلب الأميركية بالحد من تناول الدهون المشبعة لتقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب (5).
جاءت هذه التوصيات ومثيلاتها على خلفية الدراسات التي ربطت بين ارتفاع نسبة الدهون المشبعة في الطعام وبين ارتفاع نسبة البروتين الدهني منخفض الكثافة (LDL)، الذي يُعتقد أنه في حد ذاته مسؤول عن حدوث تصلُّب الشرايين، وفي الوقت ذاته أوصت هذه الدراسات باستبدال الدهون المشبعة لصالح أخرى غير مشبعة كالموجودة في الزيوت النباتية. لم تُشر الدراسات بوضوح إلى السر وراء تسبُّب البروتين الدهني في حدوث تصلُّب الشرايين من الأساس، ولا الدور الذي تلعبه الدهون النباتية في هذه العملية، مما أعطى طابعا شريرا غامضا للدهون الحيوانية المشبعة.
نتيجة لذلك، أصبحت الزيوت النباتية موجودة في كل شيء نتناوله تقريبا، بداية من طبق البطاطس المقلية الذي تعشقه، وحتى بسكويت الحمية الذي تشتريه من البقالة. إذا ألقيت نظرة على ظهر مغلف رقائق البطاطس أو البسكويت أو حتى كعك الشوكولاتة، بل وبعض أنواع الجبن أيضا، فستجد عنصرا مشتركا بين الجميع وهو "الزيت النباتي"، وفي بعض الأحيان زيت النخيل أو الصويا.
لم يتوقف الأمر هنا، بحلول عام 1911، سنحت الفرصة لشركة "بروكتر أند غامبل" الأميركية لغزو السوق بسمن "كريسكو" (Crisco) الذي يمنح ربة المنزل ميزة القوام المتماسك للسمن والسعر الرخيص للزيت. صُنع هذا المنتج من زيت بذور القطن المبلور أو المهدرج، وكان أول سمن يُصنع بالكامل من الزيت النباتي على مستوى العالم (6). انتشر هذا المنتج الجديد انتشار النار في الهشيم، واتبعت العديد من الشركات على مستوى العالم المبدأ نفسه لتصنيع السمن النباتي باستخدام مختلف أنواع الزيوت، وغزت تلك الدهون المهدرجة الهجينة كل الأسواق، وأغرقت الشاشات بالإعلانات والدعاية المكثفة لترغيب ربات البيوت في هذه المنتجات.
بداية الخطر
لكن في مرحلة ما، ظهر أن الدهون المهدرجة أسوأ مما توقع الجميع، إذ ترفع من نسبة الكوليسترول السيئ والدهون الثلاثية في الدم، وتُقلِّل من نسبة الكوليسترول الجيد، بالإضافة إلى أنها ترفع من مخاطر الإصابة بسرطان الثدي، والقولون، والسمنة، والسكري من النوع الثاني ضمن أمراض عديدة أخرى (7).
على الرغم من ذلك، ولفترة طويلة للغاية، استحوذ السمن النباتي المهدرج على أرفف البقالات وخزائن ربات البيوت وأطباق المطاعم، ولم يُلتَفت إلى مخاطره الجسيمة إلا مؤخرا، إذ أصدرت منظمة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) قرارا عام 2015 فحسب بأن الدهون المهدرجة غير آمنة للاستهلاك الآدمي ولا بد من منعها (8).
ظل الكوليسترول سيئ السمعة مرتبطا دوما باللحوم الحمراء والدهون الحيوانية والبيض، على الرغم من أنه يُصنَّع أيضا داخل جسم الإنسان. يُتعَامل مع الدهون التي نتناولها مع الطعام من خلال مجموعة من النواقل المسؤولة عن توصيل الدهون الثلاثية والكوليسترول من وإلى الخلايا، وهذه النواقل تحديدا هي المسؤولة عن عملية تصلُّب الشرايين إن لم تعمل بالشكل الأمثل.
تتكوَّن هذه النواقل من جزيئات تحتوي على البروتين والدهون معا، لذلك تُسمى البروتينات الدهنية، ولها عدة أنواع يُهمنا منها هنا البروتين الدهني "عالي الكثافة" (HDL)، والبروتين الدهني "منخفض الكثافة" (LDL). يؤدي هذان الناقلان وظيفتين متعاكستين، إذ يقوم البروتين منخفض الكثافة بتوصيل الكوليسترول إلى الخلايا، لذا يُسمَّى بالكوليسترول السيئ، بينما يعمل البروتين عالي الكثافة على جمع الكوليسترول الفائض من الخلايا وتوصيله إلى الكبد لإخراجه من الجسم فيما بعد، ويطلق عليه الكوليسترول الجيد.
لهذا السبب، تُعَدُّ نسبة البروتين عالي الكثافة المرتفعة مؤشرا على الصحة الجيدة، لأنه يمنع تراكم الدهون في خلايا الجسم البعيدة عن الكبد. تعمل الدهون النباتية، خاصة حمض "اللينوليك" (Linoleic) الدهني، على خفض نسبة الكوليسترول السيئ في الدم، ولفترة طويلة اعتُبر هذا دليلا على أنها صحية أكثر من الدهون الحيوانية، ولكن هل هذا حقيقي؟
الاتهام
ارتفع معدل الإصابة بأمراض القلب منذ بداية القرن العشرين.
قبل بداية القرن العشرين، كانت الإصابة بأمراض القلب أمرا نادر الحدوث، وللمفارقة كان استخدام الدهون الحيوانية في الطبخ هو الأساس أيضا. ولكن خلال الستين عاما التالية، أي بعد ظهور وانتشار الزيوت النباتية، حدث ما يشبه الوباء، إذ ارتفعت نسبة الوفيات من أمراض القلب الناتجة عن تصلُّب الشرايين التاجية المغذية للقلب (9)، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات السمنة ومرض السكري من النوع الثاني (10).
يُمكن أن يُعزى الأمر إلى التغيرات في النظام الغذائي أو التقدُّم في الكشف عن الأزمات القلبية قبل الوفاة ومن ثم إرجاعها إلى تصلُّب الشرايين، ولكن هل الأمر مصادفة أيضا أن هذا الارتفاع جاء بالتزامن مع الانتشار غير العادي للزيوت النباتية رخيصة الثمن، واكتساحها للأسواق والبيوت؟
عند تلك النقطة، دعنا نُلقِ نظرة أقرب على كيفية حدوث تصلُّب الشرايين، وكي نفعل ذلك علينا العودة إلى البروتينات المسؤولة عن نقل الدهون داخل الجسم. في حالتها العادية، تؤدي البروتينات الدهنية وظيفتها في نقل الدهون الثلاثية والكوليسترول بين الكبد وخلايا الجسم. ولكن في حالة تناول حمض اللينوليك الدهني -وهو أشهر دهون أوميجا 6 غير المشبعة الموجودة في الزيوت النباتية- تصبح البروتينات الدهنية عُرضة للتأكسد السريع، مما يؤدي إلى تغيُّر شكلها الخارجي، ما يجعل الكبد عاجزا عن التعرف عليها وإزالتها من الدم.
عندما يعجز الكبد عن تنظيف الدم من الأحماض الدهنية الضارة، تتدخل الخلايا المناعية الأكولة (Macrophages) لتلتهم هذه البروتينات الدهنية المُؤكسَدة، وتتحوَّل إلى "خلايا رغوية" تترسَّب في بطانة الشرايين وتصنع كتلا متصلبة تؤدي إلى ضيق هذه الشرايين من الداخل، وبالتالي قصور في الدورة الدموية المؤدية إلى العضو المَعني. جدير بالذكر أنه حيثما وُجدت أمراض القلب، وُجدت نِسَب مرتفعة من البروتينات الدهنية المؤكسَدة. لا يكتفي حمض لينوليك بالتسبُّب في تصلُّب الشرايين، ولكنه يُقلِّل من امتصاص أحماض أوميجا 3 الصحية الموجودة في السمك والمكسرات (11).
على الجانب الآخر، تفتقر الدهون الحيوانية إلى وجود حمض اللينوليك، بالتالي لا تتأكسد سريعا عند امتصاصها، ولكنها بالطبع تحتوي على قدر أكبر من السعرات الحرارية مقارنة بنظيرتها النباتية، وترفع من نسبة الكوليسترول السيئ في الدم كما قلنا، لكن رغم ذلك، فإنها لا تتسبَّب في أكسدة الدهون بالمعدل نفسه.
الحقيقة
لماذا إذن تُشير الكثير من الدراسات والأبحاث إلى أن الزيوت النباتية صحية أكثر من نظيرتها الحيوانية؟ ولماذا نجد الشعوب التي تعتمد في غذائها على الزيوت النباتية، كشعوب البحر المتوسط وشرق آسيا، لديهم معدلات أقل من أمراض القلب مقارنة بالدول الأخرى؟ (14). ليس هذا فحسب، فمراجعة العديد من الدراسات حول هذا الأمر خلصت في النهاية إلى أن استبدال الدهون المشبعة بأحماض أوميجا 6 أدَّت إلى انخفاض معدلات الإصابة بأمراض القلب (15).
هنا دعونا نعُد إلى دراسة قديمة قليلا، في واحدة من أكبر وأدق الدراسات التي تمت في تاريخ الطب، التي نُشرت نتائجها عام 1989، وتُدعى "مسح مينيسوتا للشرايين التاجية". في الدراسة، قارن الباحثون بين مجموعتين من المرضى، تناولت إحداهما طعاما مطهوا بالدهون الحيوانية، بينما تناولت الأخرى طعاما مطهوا بالزيوت النباتية. أشارت النتائج الأولية للدراسة إلى أنه بعد عام من الالتزام بإحدى الحميتين، لوحظ تناقص نسبة الكوليسترول في الدم في العينة التي تناولت الزيوت النباتية (12).
هذه النتيجة تبدو بديهية ومتوقَّعة، ولكن بعد عدة أعوام من نشر هذه الدراسة، أُعيد البحث في مسودة البيانات الأولية، ووُجد أن الأشخاص الذين شاركوا في التجربة فوق سن 65 عاما ونجحوا في تقليص نسبة الكوليسترول في الدم في الحقيقة كانوا أكثر عُرضة للموت من العينة الأخرى. لم يكن الهدف النهائي لحمية الزيوت النباتية هو تقليل نسبة الكوليسترول، أو خفض معدلات أمراض القلب، بل كان من المفترض أيضا أن تؤدي إلى تقليل نِسَب الوفيات من أمراض القلب، وهو ما لم يحدث في هذه التجربة (13).
حلَّل الباحثون في الدراسة نفسها بيانات خمس تجارب أخرى شبيهة، أُجريت على ما يفوق 10000 عينة بحث، ولم تُشر نتائجهم إلى أي فائدة من حمية الزيوت النباتية في تقليل الوفيات من أمراض القلب. صحيح أن الدهون النباتية تخفض من الكوليسترول السيئ، ولكنها تُسرِّع من أكسدته، وتوقَّع الباحثون بالدراسة أن هذا التأثير يكون ذا خطورة في مَن هم فوق سن 65 عاما، والمدخنين ومدمني الكحوليات، لأن أجسامهم تميل إلى أكسدة حمض لينوليك أكثر من غيرهم.
استنتج "كريستوفر رامسدن"، الباحث الرئيسي بالدراسة الأخيرة، أن السبب الحقيقي وراء السمعة السيئة التي اكتسبتها الدهون الحيوانية المشبعة هي عدم نشر المعلومات التي تتمخض عنها الدراسات كاملة، مما يُعطي انطباعا أوليا أن الدهون النباتية صحية أكثر، دون النظر إلى التأثير طويل المدى لهذه الدهون، وأثرها على الوفيات جراء أمراض القلب، الذي من المفترض أن يكون الهدف الرئيسي من حمية الزيوت النباتية.
قد تُصيبك هذه المعلومات المتضاربة بالحيرة، والعجز عن اتخاذ القرار الأمثل لصحتك واختيار المصدر المناسب للدهون، التي من المفترض أن تُمثِّل 30% من مصدر السعرات التي تتناولها يوميا (17). ولكن العلم لم يصل إلى إجابة شافية عن هذا السؤال، أيهما صحي أكثر؛ الزيوت النباتية أم الحيوانية؟ يمكنك دوما اختيار الاعتدال في تناول الدهون بكل أنواعها، والحفاظ على مستوى صحي من النشاط اليومي، مع الوضع في الاعتبار سنك وحالتك الصحية الحالية، والأمراض التي تعاني منها، ومن ثم نأمل أننا نتخذ القرار الصحيح والواعي من أجل صحتنا.
____________________________________________
المصادر:
- Know the facts about fats – Harvard Health
- 3.3: Lipid Molecules – Introduction – Biology LibreTexts
- Dietary Cholesterol and the Lack of Evidence in Cardiovascular Disease – PMC.
- Historical Perspectives: Hudnut corn oil pioneer
- Dietary Fats and Cardiovascular Disease: A Presidential Advisory From the American Heart Association
- About Crisco
- Trans fats—sources, health risks and alternative approach – A review – PMC
- Trans Fat | FDA
- The epidemic of the 20(th) century: coronary heart disease.
- Omega-6 polyunsaturated fatty acids and the early origins of obesity
- Omega-6 vegetable oils as a driver of coronary heart disease: the oxidized linoleic acid hypothesis
- Test of effect of lipid lowering by diet on cardiovascular risk. The Minnesota Coronary Survey
- Re-evaluation of the traditional diet-heart hypothesis: analysis of recovered data from Minnesota Coronary Experiment (1968-73)
- Dietary Fats and Cardiovascular Disease: A Presidential Advisory From the American Heart Association
- No need to avoid healthy omega-6 fats – Harvard Health
- Impact of consumption of repeatedly heated cooking oils on the incidence of various cancers- A critical review.
- Healthy Fat Intake
المصدر : الجزيرة