أحمد دعدوش
رغم مرور أكثر من 25 قرنا على ظهورها، وبعد كل ما عانته من تقييد ممنهج على يد الحزب الشيوعي، فما زالت الكونفوشية تحظى باحترام بالغ في الصين؛ إذ لم تكتف بتجاوز عقبات الزمن وتقلبات السياسة، بل أصبحت إحدى أدوات القوة الناعمة للصين الحديثة، ووعاءً للحفاظ على هوية القوة الصاعدة إلى ريادة العالم.
تنسب هذه الفلسفة -أو "الديانة"- إلى كونفوشيوس، وهو شخصية ما زال الجدل قائما حول هويتها الحقيقية، إلا أن الشائع عن سيرته أنه وُلد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وكان اسمه الحقيقي "كونغ فو تسِه".
نشأ في أسرة فقيرة بولاية "ليو" (مقاطعة شاندونغ حاليا)، وترقى في عدة مناصب حكومية، ثم تفرغ في سن التقاعد لتدريس الناس قواعد الحكمة، ولم يكن يعدّ نفسه مبتكرا لفلسفة جديدة بل كان ناقلا لتقاليد أخلاقية قديمة.
كان كونفوشيوس معتادا على الطواف في الأقاليم الصينية للتبشير بأفكاره، وكان جلّ اهتمامه منصبا على إصلاح الحكام والأمراء. ولم تجر الرياح غالبا بما تشتهي سفنه، وعانى كثيرا من الرفض والنبذ، فحتى مع فوزه ببعض التكريم والمناصب من قبل حفنة من الحكام فإنه لم ينجح في إقناع أي منهم بتطبيق فلسفته على الوجه الصحيح.
لم يترك كونفوشيوس كتبا تحفظ لنا أفكاره وأقواله بطريقة يمكن التيقن من نسبتها إليه أو سلامتها من التحريف والتبديل، فأقدم النصوص المنسوبة له لم يُدوّن إلا بعد رحيله بنحو 4 قرون، لذا سيظل الجدل مستمرا حول كثير من تفاصيل حياته ومعتقداته، فالبعض لا يستبعد كونه نبيا مرسلا من الله إلى شعبه، لا سيما أنه كان يتحدث عن أن السماء أوكلت إليه مهمة علاج بلاده من أوجاعها، كما كان يشير إلى ثقته بأن السماء لن تخذله، وأنها الوحيدة التي تفهمه.
تقول الحكمة المأثورة "لا كرامة لنبي في قومه"، وكانت لكونفوشيوس كرامة في قومه ولكنها ليست في عصره، فبعد موته ببضعة قرون أصبحت فلسفته المظلة الأعم للتقاليد الدينية الصينية، حتى نُسبت إليه معظم المؤلفات التاريخية التي أنتجها الفكر الصيني في العصور الغابرة، وأقيمت الهياكل والتماثيل لتبجيله على عادة الصينيين في تقديس الأسلاف، حتى كاد البعض يرفعه إلى مصاف الآلهة، وعدّه ندًّا لإله السماء.
ومن أهم الكتب المنسوبة له كتاب "تعاليم كونفوشيوس"، وهو مجموعة مدونة من أقوال وأفعال كونفوشيوس وتلامذته، كما يضم العديد من حواراته معهم. ويمكن عدّه المصدر الرئيسي لأفكاره وتعاليمه، التي ما زال لها تأثير كبير على الفكر والقيم في الصين ودول شرق آسيا حتى اليوم.
الأصل الباطني
تشترك الكونفوشية مع الطاوية وبقية المعتقدات الصينية في غموض نشأة الوجود؛ فمعظم الأديان الباطنية الآسيوية تضفي على الكون بُعدا روحيا يجعله مستقلا بذاته، وربما مستغنيا عن الخلق. فالكون يخلق نفسه من فوضى أولية، ثم تنتظم مكوناته من خلال قطبية العنصرين المتناقضين "يين ويانغ"، حيث تستمر عملية التخلق في دورات لا نهائية ما زلنا نرى آثارها إلى اليوم.
تشير مأثورات كونفوشيوس إلى "تيان" الذي يحل في السماء، ويتحدث كتاب "تعاليم كونفوشيوس" عن تيان بصفته مصدرا للحياة، كما ينص على أنه يراقب البشر ويحكم عليهم، إلا أن الباحثين المعاصرين يصرون على أن "تيان" لا يمكن فهمه بطريقة تشابه مفهوم الإله في الأديان السماوية، فهو ليس إلهًا فاعلا خالقا مريدا، بل هو مثل "التاو" في الطاوية و"براهمان" في الهندوسية، أي أنه مبدأ الانتظام في الطبيعة، ومن خلال التأمل والاتحاد معه يكتشف البشر كيف يجب أن يعيشوا ويتصرفوا.
بناء على ذلك، تستبعد مراجع معاصرة كثيرة أن تكون المعتقدات الصينية -ومنها الكونفوشية- دينا، إذ إن شعائر التقديس والتبجيل لا تأخذ صفة العبادة، ومن يمارسها لا يقصد بها نيل رضا إله ما أو محبته، ولا انتظار مثوبة في الآخرة، بل يبحث من خلال تقربه إلى "المطلق" عن اتباع الطريق الأمثل للحياة، والتناغم مع بقية مكونات الوجود.
وفي كتاب "تعاليم كونفوشيوس"، يحث كونفوشيوس أتباعه على ممارسة الشعائر المناسبة (لي) التي تعني احترام المواقع وحسن التقدير، كنوع من العبادة (جينغ) للآلهة (شِن)، التي تنبثق وتنبع من "تيان".
وعندما يسأل تلميذ كونفوشيوس عن تقديم القرابين، يجيبه بضرورة معرفة واحترام تيان أولا، ثم تأدية شعائره التي تشمل تقديم القرابين بشكل صحيح، وعليه أيضا أن يقدم تضحيات شخصية وأن يؤثّر في الوجود، وإلا فإن عمله لن ينتج شيئا؛ والنتيجة هي ربط الشعائر دائما بما تتركه من أثر في النفس، وفي الوجود كله.
التركيز على الأخلاق
لا ينشغل كونفوشيوس كثيرا بفلسفة الوجود، فهو ينطلق من الأسس الباطنية التي استقاها من المعتقدات الموجودة سابقا في الصين ليربطها بالأخلاق والسلوك وتنظيم المجتمع، وإصلاح القيادة السياسية.
وبما أن السماء وُجدت -حسب تعاليم كونفوشيوس- بنظام منضبط، فيتعين على الإنسانية أن تتبعه في انتهاج "طريق معتدل" يحفظ التوازن بين قوى "اليين واليانغ"، وهذا التناغم الاجتماعي القائم على التمسك بالأخلاق الحميدة يتطلب احترام الأجداد العظماء إلى درجة تقديسهم وعبادتهم، وذلك من خلال تبجيل تماثيلهم وتقديم القرابين لأضرحتهم.
كما يتطلب هذا التناغم ضبط السلوك الجماعي بـ5 ثوابت: رن (الإحسان للآخرين)، ويي (الحق)، ولي (ممارسة الشعائر)، وشي (المعرفة)، وسين (النزاهة).
أما سلسلة الأخلاق السلوكية فتتضمن 4 فضائل رئيسية: شون (الإخلاص)، وسيا (بر الوالدين)، وسييه (العارض السماوي)، ويي (الحق) الذي يوجد أيضا ضمن قائمة الثوابت الخمسة. وتضاف إلى هذه الفضائل عناصر أخرى فرعية، مثل الصدق والرحمة والشجاعة واللطف والتواضع.
التأثير في السياسة
تكتسب الكونفوشية أهميتها من دمجها للنظامين السياسي والاجتماعي في وحدة متكاملة؛ فالفضائل الشخصية التي حث أتباعه عليها يجب أن يتشارك فيها الحكام والشعب على السواء.
كان كونفوشيوس يدعو إلى حكومة أبَوية بطريركية (تسلطية) يتمتع فيها الحاكم باحترام شديد، وذلك في مقابل احترام الحاكم منظومة الفضائل وتقيده بها حتى يبلغ الكمال ويصبح قدوة لشعبه.
ومع أن بعض الباحثين المعاصرين يرون في التقليد الكونفوشي تكريسا للاستبداد، وتسهيلا لحصول الحاكم على التفويض بسلطات "إلهية"، فهو أشبه بالأب الذي يطيعه الأطفال من دون اعتراض، فإن البعض يدافع عن كونفوشيوس بأنه كان يدعو إلى تعميم التعليم بين كل أبناء الشعب من دون طبقية، وأنه كان يحث على التزام الحكام والمحكومين معا بالفضيلة.
كان كونفوشيوس يحلم بدولة يستتب فيها النظام عن طريق نشر الشعائر (لي) والموسيقى، وكان يهتم كثيرا بإنشاد القصائد الصينية القديمة بألحان موسيقية، ويطوف أقاليم بلاده ليقنع الحكام بأن تمتعهم بالفضيلة سيجعل الدول في غنى عن تشريع القوانين واستخدام القوة، لكن هذه الدعوة كانت أقرب إلى الطوباوية من الواقع.
ورغم عدم نجاحه في حياته، فقد انتشرت أفكار كونفوشيوس بعد وفاته، وانتشرت المدارس في أنحاء البلاد لتعلم الناس فلسفة "المعلم الأكبر"، وأصبحت أفكاره نواة لمنظومة دينية تقام لها المعابد والمعاهد، لا سيما في فترة الحروب الطاحنة التي عصفت بأقاليم الصين وممالكها الممزقة.
والمفارقة العجيبة أن أول من وحّد الصين ومنحها صفة الأمة والإمبراطورية الموحدة هو أشد الحكام عداءً لإرث كونفوشيوس؛ تشين شي هوانغ -أو شي هوانغ دي- أول إمبراطور للصين، الذي اتخذت البلاد اسمها من اسمه.
في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، نجح تشين في تشكيل أقوى جيش بالمنطقة، ومن حسن حظه سقوط مملكة هان (التي نشأ فيها كونفوشيوس) في عصره، ثم تكبد دولة تشاو خسائر مؤلمة جراء زلزال مدمر، فانتهز تشين الفرصة في غزو كل الممالك وإسقاطها واحدة تلو الأخرى لتشكيل دولة الصين الكبرى.
كان تشين معروفا بطغيانه وجبروته، ويقال إنه دفن مئات العلماء والفلاسفة أحياء، ورجم آخرين حتى الموت بمجرد مخالفتهم له. وبما أن الكونفوشية كانت مزدهرة في بعض الممالك التي أسقطها فقد عدّها تهديدا لسلطته، وأمر بإحراق كل الكتب التي لا تتوافق مع الفلسفة الوحيدة التي اعتمدها، وهي "القانونية"، إذ كان القانونيون يرون أن التاريخ يشهد بفشل أحلام كونفوشيوس في التعويل على اتخاذ الحكام قدوة، وعلى الفضائل التي يتمتع بها الشعب، وأصروا على أن الحكم يجب أن يستند إلى القوانين لا إلى الحكام، وأن الناس يجب أن يرغموا على الطاعة حتى تصبح جزءا أصيلا من طبيعتهم.
وكما يقول ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة"، فقد كُتب لفلسفة كونفوشيوس النصر آخر الأمر، فما أن انقضى عهد الإمبراطور الأول، وعهد أسرته قصير الأجل، حتى تربع على العرش أباطرة آخرون أعادوا للفيلسوف مجده الأول، وجعلوا حكمته أساسا لبرامج التعليم والحكومة، ونقشوا أقواله على حجارة المعابد، واعتمدوا فلسفته دينا رسميا للدولة، فما يكاد اسم فيلسوف آخر يضاهي اسمه في الصين منذ ألفي سنة.
القوة الصاعدة
في عام 1993، طرح المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون نظريته "صدام الحضارات"، وتسبب في موجة هائلة من الجدل حول العالم، إذ رأى أن الصراعات المقبلة ستكون بين الحضارات المتمايزة ثقافيا ودينيا وليس اقتصاديا كما كان شائعا في ظل العولمة. ورأى أن أكثر الحضارات المرشحة للصدام مع الحضارة الغربية هي الحضارة الإسلامية، كما لم يغفل مخاوفه من الصدام مع الحضارتين الأرثوذكسية (الروسية) والصينية.
ومنذ طرح تلك النظرية، ما زال كثير من المنظّرين الإستراتيجيين يرون أن المجال الثقافي الصيني كتلة متجانسة، كما يعدّون الكونفوشية أحد أهم مكوناته. فمع أن الصين تنكرت لتراثها ودينها وتبنت الإلحاد الشيوعي منذ إعلان ماو تسي تونغ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، فإن الصين الصاعدة اليوم بقوة أصبحت أكثر تصالحا مع هويتها الكونفوشية.
فمنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، سمح الحزب الشيوعي الحاكم بإعادة الاعتبار للأديان، كما يواصل الرئيس الحالي شي جين بينغ سياسة التسامح مع الدين بوصفه مكونا مهما من مكونات التاريخ والهوية، وأيضا للاستفادة من دوره في ملء الفراغ الروحي والأخلاقي الناشئ عن النمو الاقتصادي المتسارع.
التلاميذ الصينيون يحتفلون باليوم العالمي للطفل عبر ارتداء ملابس هان التقليدية وقراءة فصول من نص عن أخلاق الطفل الجيد في معبد كونفوشيوس في نانجينغ (غيتي)
ويبدو أن هذا التسامح يلقى ترحيبا من الشعب، إذ كشف استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2020 عن أن 48.2% من سكان الصين يقرون باعتقادهم بأحد الأديان، وهي نسبة كبيرة في بلد يُعتقد أن الكثير من مواطنيه لا يجرؤون عن الإفصاح عن أفكارهم بحرية، مما يعني أن نسبة التدين والإيمان قد تكون أكبر بكثير.
وفي ظل هذا التغير، لم يكتف الحزب الشيوعي بالتخلي عن انتقادات مؤسسيه للتعاليم الكونفوشية، والذين رأوا فيه ممثلا للرجعية البورجوازية، بل أصبح الحزب نفسه اليوم حارسا للتقاليد الكونفوشية، لا سيما أنها توفر له أساسا متينا لانضباط الشعب واحترام الزعيم، لذا أصبح من المألوف السماح ببناء المزيد من المعابد والمعاهد الكونفوشية، ورعاية المؤتمرات والمهرجانات، وحتى تقديم محاضرات لمسؤولي الحزب عن التعاليم الكونفوشية، في حين يعاني أتباع المسيحية والإسلام من القمع والتضييق.
واليوم، يدير الجهاز الحكومي "هانبان" -التابع لوزارة التربية والتعليم في الصين- نحو 500 معهد وأكثر من ألف فصل كونفوشي في جامعات ومدارس حول العالم لتعليم اللغة والثقافة الصينيتين، إذ ما زال هذا الجهاز -الذي تأسس عام 1987- يتوسع تحت شعارات التفاهم المتبادل وتعزيز الصداقة مع شعوب العالم، في حين يراه المراقبون إحدى أدوات القوة الناعمة للسياسة الصينية.
وبعد نحو عقد ونصف العقد على نشر مجلة "فورين أفيرز" المقال الذي بشّر فيه هنتنغتون بنظريته -قبل أن يفرد لها كتابا لاحقا- نشرت المجلة نفسها في صيف 2017 مقالا للأستاذ بجامعة هارفارد غراهام أليسون، جدد فيه تأكيد أن الصراع بين الغرب والصين سيكون ثقافيا بالدرجة الأولى وليس اقتصاديا فحسب، ولفت الأنظار إلى المبدأ الكونفوشي الأول: "اعرف وطنك"، الذي تعتز به سلطة الصين اليوم لتوحيد صفوف شعبها من خلفها، في حين ينظر الشعب الأميركي -والغربي عموما- إلى الحكومة على أنها "شر لا بد منه".
أضف إلى ذلك أن الكونفوشية تزرع في الفرد الصيني قيم التضحية من أجل المجتمع، مما يجعله مستعدا للتنازل عن جزء كبير من حرياته وحقوقه في سبيل ضبط النظام ومنع الفوضى، بينما ينشأ الفرد الغربي على مفاهيم "الفردانية" والحرية الشخصية، مما ينذر بالمزيد من مخاوف تفكك المجتمعات الغربية.
"لو لم يكن الإله موجودا لوجب علينا اختراعه"، هكذا تكلم فولتير إبان الثورة الفرنسية التي تمردت على طغيان الكنيسة، إذ كان يرى أن الدين ضروري لضبط بوصلة المجتمع، وأن وجود الإله ضروري لتأسيس مفهوم العدالة. ويبدو أن عقودا متطاولة من محاولات تكريس الإلحاد الشيوعي في الصين لم تنجح في استئصال هذه الضرورة، فحتى لو كان الدين مشوبا بالأساطير والخرافات والأصول الغامضة، سيظل اعتناقه من قبل السلطة والشعب على السواء أفضل من الارتماء في هوة العدم، وأكثر قدرة على تعزيز الهوية والانتماء ومقارعة القوى الكبرى في التنافس على القمة.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية