نشرت نيويورك تايمز الأميركية (New York Times) تقريرا طويلا قالت فيه إن شبكة فاغنر الروسية الغامضة حصلت على الكثير من الأموال والذهب من السودان، ورسخت أقدامها هناك وأصبحت مساهمة في سحق الحركة الديمقراطية في البلاد.
وكشف التقرير الذي كتبه كبير مراسلي الصحيفة في أفريقيا ديكلان والش معلومات عن نشاطات فاغنر في التنقيب عن الذهب في أعماق الصحراء بولاية "الشمالية" بالسودان، والمرافق التي أقامتها هناك.
وقال إن سجلات الشركة والحكومة السودانية تظهر أن أحد مناجم الذهب التي زارتها الصحيفة -ويبعد حوالي 10 أميال من بلدة العبيدية بالولاية- يُعتبر إحدى البؤر الاستيطانية لمجموعة فاغنر التي وصفتها بأنها شبكة مبهمة من المرتزقة الروس وشركات التعدين وعمليات التأثير السياسي في السودان والقارة الأفريقية.
البنادق المأجورة
وأشار التقرير إلى أن فاغنر اشتهرت بأنها مورّد "للبنادق المأجورة"، ويسيطر عليها حليف مقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف التوسع الروسي بالقوة في رقعة واسعة من أفريقيا تتمدد في السودان وليبيا ودول الساحل وموزمبيق وتنزانيا وأفريقيا الوسطى وغيرها.
ونقل التقرير عن خبراء ومسؤولين غربيين يتابعون نشاطات فاغنر في القارة، أن الشبكة تطورت في السنوات الأخيرة لتصبح أداة أوسع نطاقا وأكثر تطورا لسلطة الكرملين. فبدلا من مهمة وحيدة، اتسعت مهامها إلى عمليات مترابطة للقتال وكسب المال واستغلال النفوذ، كأداة منخفضة التكلفة بيد بوتين يمكنه التنصل من الارتباط بها بسهولة.
وأورد التقرير كثيرا من المعلومات المنشورة من قبل عن فاغنر حول بداية نشأتها عام 2014 كفرقة من المرتزقة المدعومين من الكرملين الذين دعموا حرب بوتين الأولى في شرق أوكرانيا، وانتشارها لاحقا في سوريا، وحول زعيمها ومحور عملياتها يفغيني ف. بريغوزين المعروف بلقب "طباخ بوتين" الذي وجهت إليه لائحة اتهام في أميركا بتهمة التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، وغير ذلك.
سيل من الذهب
وقال إن نشاط فاغنر في السودان -ثالث أكبر منتج للذهب في القارة- يكشف عن مدى تمددها وتعدد مهامها. فقد حصلت على امتيازات تعدين سودانية مربحة تنتج سيلا من الذهب، يعزز مخزون الكرملين البالغ 130 مليار دولار، والذي يخشى المسؤولون الأميركيون أن يتم استخدامه لتخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية في حرب أوكرانيا، من خلال دعم الروبل.
وفي شرق السودان، يقول التقرير إن فاغنر تدعم مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية.
وفي غرب السودان، وجدت فاغنر منصة انطلاق لعمليات المرتزقة في البلدان المجاورة، ومصدرا محتملا لليورانيوم.
متعطش للسلطة
ومضى التقرير ليقول إنه منذ استيلاء الجيش السوداني على السلطة في انقلاب أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كثفت فاغنر شراكتها مع "القائد المتعطش للسلطة" الفريق محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي، الذي زار موسكو في الأيام الأولى من حرب أوكرانيا الحالية، ونسب إلى مسؤولين غربيين أن فاغنر قدمت مساعدة عسكرية للجنرال دقلو وساعدت قوات الأمن السودانية على قمع "حركة شعبية هشة" مؤيدة للديمقراطية.
ونسبت الصحيفة إلى صمويل راماني من المعهد الملكي للخدمات المتحدة -وهي مجموعة أبحاث دفاعية في لندن- ومؤلف كتاب سيصدر قريبا عن "روسيا في أفريقيا"، القول إن السودان يمثل نوع البلدان التي تزدهر فيها فاغنر.
وأشارت إلى أن المقابلة الشهيرة للرئيس السوداني السابق عمر البشير مع الرئيس الروسي في منتجع سوتشي الساحلي عام 2017، هي التي مهدت لقدوم فاغنر إلى السودان.
وقالت إن الفريق حميدتي والمدير العام للشركة السودانية للتعدين مبارك أردول، رفضا إجراء مقابلة مع نيويورك تايمز لإعداد هذا التقرير.
وذكر التقرير أنه على مدى الـ18 شهرا التالية لسقوط نظام عمر البشير، استوردت شركة ميري غولد للتعدين -التابعة لزعيم فاغنر- شحنة إلى السودان، وفقا لسجلات الجمارك الروسية، تضمّ معدات تعدين وبناء وشاحنات عسكرية ومركبات برمائية وطائرتين مروحيتين للنقل. وتم رصد إحدى هاتين الطائرتين بعد عام في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث كانت مقاتلات فاغنر تحمي رئيس البلاد هناك، وحيث حصل بريغوزين زعيم فاغنر على امتيازات مربحة لتعدين الألماس.
حثوه على إعدام بعض المتظاهرين
وقال التقرير إن الروس حثوا البشير -في مذكرة أواخر عام 2018 عند بداية ثورة ديسمبر/كانون الأول الشعبية ضد نظامه- على إدارة حملة لتشويه سمعة المتظاهرين، وإعدام بعضهم علانية تحذيرا وتخويفا للآخرين.
وعندما أطاح جنرالات الجيش السوداني برئيسهم البشير ووضعوه رهن الإقامة الجبرية في أبريل/نيسان 2019، غيّر الروس مسارهم بسرعة.
وبعد أسبوع، وصلت طائرة تابعة لبريغوزين إلى الخرطوم، على متنها وفد من كبار المسؤولين العسكريين الروس، وعادت إلى موسكو مع مسؤولين كبار في الجيش السوداني، من بينهم شقيق الجنرال حميدتي الذي ظهر آنذاك كوسيط سلطة، وفقا لبيانات الرحلة التي حصلت عليها صحيفة نوفايا غازيتا الروسية.
وبعد 6 أسابيع، أي في 3 يونيو/حزيران 2019، شنت قوات حميدتي عملية دموية لتفريق المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية من أمام القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم، قُتل فيها ما لا يقل عن 120 شخصا. وخلال أسبوعين من تلك العملية الدموية، استوردت شركة ميري غولد التابعة للسيد لبريغوزين 13 طنا من دروع مكافحة الشغب، فضلا عن الخوذات والهراوات لشركة تسيطر عليها عائلة حميدتي.
لقاء البشير (يسار) وبوتين الشهير بمنتجع سوتشي الساحلي عام 2017 هو الذي مهد لقدوم فاغنر إلى السودان (رويترز)
حملة تضليل ومفاقمة الانقسامات
ومضى التقرير يقول: في ذلك الوقت تقريبا، سعت حملة تضليل روسية باستخدام حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي إلى مفاقمة الانقسامات السياسية في السودان، وذلك بتقنية مشابهة لتلك التي استُخدمت للتدخل في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016، وأغلق فيسبوك 172 من هذه الحسابات الوهمية في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ومايو/أيار 2021، وربطها مباشرة بالسيد بريغوزين.
وسرد التقرير كثيرا من المعلومات حول الكيفية التي تنفذ بها مجموعة فاغنر أنشطتها في تعدين الذهب بمنطقة العبيدية، وكيف تشتريه من الأهالي، وحماية جنود من قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي لأفراد فاغنر.
ومما ذكره التقرير أنه عندما اقترب فريق "نيويورك تايمز" من بوابة مصنع ميري غولد، أراد المهندس السوداني أحمد عبد المنعم أن يكون مفيدا، وقال إن حوالي 30 روسيا و70 سودانيا يعملون هناك، مشيرا إلى أماكن المعيشة والورشات والأبراج المعدنية اللامعة. وقبل أن يتمكن من إكمال التفاصيل، تطايرت رسالة باللغة الروسية عبر الراديو داخل المصنع، بعدها توقفت حافلة صغيرة في الخارج يقودها رجل أبيض المظهر، رياضي يرتدي شورتا قصيرا ونظارة شمسية وقميصا أخضر (كاكي)، وتجنب التواصل البصري مع فريق الصحيفة، وابتعدت الحافلة حاملة عبد المنعم، ودعت فريق الصحيفة للمغادرة.
تهريب معظم الذهب
ونسبت الصحيفة إلى خبراء ومسؤولين سودانيين القول إن عائلة حميدتي تهيمن على تجارة الذهب الذي يُهرّب حوالي 70% منه، وفقا لتقديرات بنك السودان المركزي التي حصلت عليها نيويورك تايمز.
وقالت إن معظم الذهب يمرّ عبر دولة الإمارات، المركز الرئيسي للذهب الأفريقي غير المصرّح به. ويقول المسؤولون الغربيون إنه يتم تهريبه على الأرجح بهذه الطريقة، مما يسمح بتجنب الضرائب الحكومية، وربما حتى حصة العائدات المستحقة للحكومة السودانية.
وأضافت الصحيفة أنه في الفترة من فبراير/شباط إلى يونيو/حزيران 2021، قام مسؤولو مكافحة الفساد السودانيون بتتبع 16 رحلة شحن روسية هبطت في بورتسودان من اللاذقية بسوريا، وبدأت بعض الرحلات الجوية التي تديرها وحدة الطيران رقم 223 التابعة للجيش الروسي، بالقرب من موسكو، وتمكنت نيويورك تايمز من التحقق من معظم تلك الرحلات باستخدام خدمات تتبع الرحلات.
وقالت إنه للاشتباه في أن الطائرات كانت تُستخدم لتهريب الذهب، أغار المسؤولون على رحلة واحدة قبل إقلاعها في 23 يونيو/حزيران العام الماضي، ولكن عندما كانوا على وشك فتح شحنتها، تدخل جنرال سوداني مستشهدا بأمر من رئيس مجلس السيادة السوداني الحاكم الفريق عبد الفتاح البرهان. وقال مسؤول كبير سابق في مكافحة الفساد -تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته- إن الطائرة نُقلت إلى القسم العسكري بالمطار وغادرت إلى سوريا بعد ساعتين دون تفتيش.
البرهان رفض مقابلة فريق الصحيفة
وقالت نيويورك تايمز إن الفريق البرهان رفض إجراء مقابلة خلال إعداد هذا التقرير، وقلل عضو مجلس السيادة الحاكم الجنرال إبراهيم جابر من شأن الروايات عن عمليات تهريب روسية، قائلا "الناس يتحدثون، لكنك بحاجة إلى دليل".
وأشار التقرير إلى محاولة من بريغوزين للحصول على الدعم السوداني، بتبرعه بـ198 طنا من المواد الغذائية لفقراء السودان العام الماضي خلال شهر رمضان "هدية من يفغيني بريغوزين"، وكتب على علب الأرز والسكر والعدس عبارة تذكر بالحرب الباردة: "من روسيا مع الحب".
وتضمن التبرع -الذي تم تقديمه من خلال شركة تابعة لشركة ميري غولد- 28 طنا من الحلويات التي تم استيرادها خصيصا من روسيا، ونقل التقرير عن موسى قسم الله رئيس الجمعية الخيرية السودانية التي وزعت المساعدات قوله "كانت مخصصة للأطفال، لكن الجميع استمتع بها".
وبشأن هذه الهدايا، قال التقرير إن عقبةً ما برزت بإصرار بريغوزين على تحويل 10 أطنان من الطعام إلى بورتسودان، حيث كانت روسيا تضغط من أجل الوصول البحري، بدلا من المناطق الأكثر احتياجا، وهو ما أزعج السيد قسم الله الذي قال "إنها تشير إلى أن البادرة كانت تتعلق بالسياسة أكثر من الإنسانية".
تفسير ساخر ومهين
وفي ردٍّ على نيويورك تايمز، كتب بريغوزين أنه "لا علاقة له بشركة ميري غولد"، مضيفا أنه علم أن الشركة "قيد التصفية حاليا"، وأكد أن "التبرع الخيري" جاء "بأمر من امرأة سودانية كانت له بها علاقات ودية، وعملية، وجنسية". وعلقت نيويورك تايمز بأن ما قاله بريغوزين هو تفسير ساخر من المرجح أن يتسبب في إهانة خاصة لمجتمع إسلامي محافظ.
كذلك أشار التقرير إلى سعى الحليف العسكري الرئيسي لفاغنر في السودان الجنرال حميدتي للحصول على الدعم الشعبي، قائلا إن حميدتي منذ "خيانته" للبشير عام 2019، سعى إلى النأي بنفسه عن سمعته كقائد لا يرحم في نزاع دارفور الذي أدى إلى مقتل ما يقدر بنحو 300 ألف مدني في العقد الأول من القرن الحالي.
وبدلا من ذلك، أشار حميدتي إلى طموحه في قيادة السودان، وبناء قاعدة دعم شعبي له بين الزعماء التقليديين الذين حاول التودد إليهم باستخدام الأموال والمركبات، كما قال دبلوماسيون.
وقال مسؤولان غربيان كبيران للصحيفة إن فاغنر نظمت زيارة للجنرال حميدتي في فبراير/شباط إلى موسكو، حيث وصل عشية الحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن الرحلة كانت ظاهريا لمناقشة حزمة مساعدات اقتصادية، على حد قولهم، فقد وصل حميدتي مع سبائك الذهب على طائرته، وطلب من المسؤولين الروس المساعدة في الحصول على طائرات مسيرة مسلحة.
وعند عودته إلى السودان بعد أسبوع، أعلن حميدتي أنه "لا مشكلة لديه" مع افتتاح روسيا قاعدة في البحر الأحمر.
دعم الانقلاب "لسرقة الذهب"
ونقل التقرير عن أميل خان من شركة فالنت بروجيكتس، وهي شركة مقرها لندن تراقب تدفق المعلومات المضللة، إنه منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أطلقت شبكات التضليل الروسية في السودان 9 أضعاف الأخبار المزيفة عما كانت عليه من قبل، في محاولة لحشد الدعم للكرملين.
وأضافت أن رسالة فاغنر لم تجد الترحيب من الجميع، فقد اندلعت عدة احتجاجات ضد عمليات ميري غولد في مناطق التعدين، واجتذبت شخصية سودانية على يوتيوب تُعرف باسم البعشوم (أي الثعلب) جماهير كبيرة بمقاطع فيديو تدعي أنها ترفع الغطاء عن أنشطة فاغنر.
وقال التقرير أيضا إن المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في السودان يفترضون أن موسكو كانت وراء الانقلاب العسكري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على الحكومة السودانية، وكتب البعض على ملصق ظهر في الخرطوم مؤخرا: "روسيا دعمت الانقلاب لتتمكن من سرقة ذهبنا".
المصدر : نيويورك تايمز