لا تعدّ اللغات المحكية طريقة للتواصل فحسب بل تعبّر عن طرق متعددة لرؤية العالم، ورغم وجود أكثر من 7 آلاف لغة حية في العالم فإن مخاطر اختفاء وانقراض قرابة نصف هذه اللغات في نهاية القرن الجاري -حسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)- يهدد بفقدان رؤى مختلفة ومميزة للعالم وأيضا بفقدان معارف إنسانية احتوتها تلك اللغات العريقة.
ورغم ازدياد الوعي بقضايا السكان الأصليين في أنحاء العالم، لا يزال قليلون فقط ينظرون باحترام وتقدير للثروة المعرفية لدى السكان الأصليين الذين يتعرض كثير من ثقافتهم للمحو أو التدمير بالكامل، ومن ذلك لغاتهم وعلومهم منذ عصر الاستكشافات الجغرافية واستعمار "العالم الجديد" في الأميركيتين وأستراليا ونيوزيلندا.
يكشف أطلس لغات العالم المهددة بالاندثار الصادر عن المنظمة الأممية أن لغة تنقرض كل أسبوعين، وهذا يعني أن 25 لغة تنقرض سنويا، ورغم أن مستقبل هذه اللغات ومصيرها وكذلك مصير مئات غيرها يبدو قاتما فإن اللغويين المتخصصين وعشاق اللغات في جميع أنحاء العالم يبذلون جهودا للحفاظ على هذه اللغات التي تكافح للبقاء في كلام البشر.
أميركا اللاتينية
في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية يتحدث ملايين الناس لغات الشعوب الأصلية التي تصنفها الأمم المتحدة على أنها مهددة بالانقراض.
ويسعى أمريكو ميندوزا موري، الأكاديمي المحاضر في الدراسات اللاتينية في الولايات المتحدة، لمساعدة هذه الشعوب على إحياء ثقافاتها ولغاتها الأصلية، بعيدا عن التهميش أو الأفكار النمطية الجاهزة.
وتقول الكاتبة نيكي روخاس، في تقرير نشرته مجلة "هارفارد غازيت" (Harvard Gazette)، الصحيفة الرسمية لجامعة "هارفارد" الأميركية العريقة، إن نشاط ميندوزا موري في مجال الثقافة اللاتينية في الولايات المتحدة وفي نطاق حياة الجاليات اللاتينية في هذا البلد جعله يلاحظ قلّة الأعمال الأكاديمية والأوراق البحثية التي أنجزت بخصوص اللغات الأصلية التي لا تزال تعتمد اعتمادا أساسيا على الموروث الشفهي.
وبات هذا الباحث مهتما بوجه خاص بلغة الكيتشوا التي كانت تتحدثها حضارة الإنكا، وهي لا تزال الآن متداولة بين 8 ملايين شخص في سلسلة جبال الأنديز على الساحل الغربي لأميركا الجنوبية.
وقد حكمت حضارة الإنكا الساحل الغربي لأميركا الجنوبية منذ بداية القرن الـ12 الميلادي وطوال مئات من السنين سيطرت فيها على الأراضي الشاسعة الممتدة من كولوميبا إلى تشيلي، وتعرف الإنكا بأنها إمبراطورية غامضة كانت تعدّ أكثر المجتمعات تطورا في الأميركتين قبل وصول المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس عام 1492م.
ويقول موري "هنالك حراك اجتماعي لمتحدثي هذه اللغة الذين لا يسعون فقط للإبقاء عليها لأنها مهددة بالانقراض، بل يسعون لبناء حركة ثقافية كاملة لإعادة إحيائها، وهذه الحركة ليست فقط في جبال الأنديز بل أيضا في صفوف مختلف أطياف الجاليات اللاتينية على أراضي الولايات المتحدة".
ويأمل ميندوزا موري أن تخصص الجامعات ومراكز البحث مزيدا من الاهتمام للغات الشعوب الأصلية، حتى تتوفر فرص إضافية للباحثين والطلبة المهتمين بهذا المجال، ويزداد الوعي بهذه الشعوب.
ويتابع "نحن نتفهم أنه ليس بإمكان كثيرين حضور دروس لغة الكيتشوا أو ثقافة الشعوب الأصلية، ولكن نسعى لأن يكون هذا الأمر طبيعيا تماما مثل حضور الدروس في بقية مجالات المعرفة".
لغات المستعمرات
ويضيف ميندوزا "يجب جعل دراسات الشعوب الأصلية ولغاتها جزءا من البنية التحتية الأكاديمية، تماما مثلما جُعلت لغات المستعمرين أداة لإنتاج المعرفة في السابق. وهنالك سبب وجيه يجعل متحدثي هذه اللغات الأصلية يمقتون لغات المستعمرين وثقافتهم، فقد شعروا بأن ثقافة أسلافهم كانت عرضة للتقليل من شأنها".
ويشير مندوزا موري إلى أن الأوساط الأكاديمية لا تزال تحمل إرثا استعماريا، وهي تقوم على بنية تنظيمية محددة، توجه رسائل سلبية للعديد من الثقافات والجاليات.
ويضيف أن أغلب الأكاديميين عاملوا ثقافات الشعوب الأصلية على أنها شيء من الماضي، عوض التركيز على نجاح هذه الشعوب حاليا في مقاومة التغيرات، وتحقيق الازدهار رغم الظروف المحيطة بها، وسعيها للانخراط في الحوارات المعاصرة على المستوى الوطني والعالمي.
ثقافات الشعوب الأصلية
وتشير الكاتبة إلى أن هذه الشعوب الأصلية حصلت أخيرا على دفعة مهمة في ساحة شبكات التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الرقمية، على نحو ينفي أن تكون هذه الثقافات مقتصرة على كتب التاريخ. وعلى سبيل المثال، فإن منصة "تيك توك" الترفيهية الشهيرة انتشر فيها صانعو المحتوى الذي يعرف بثقافة ولغات الشعوب الأصلية، وذلك بالاعتماد على وسم "#Native_tik_tok"، الذي حاز مليارات المشاهدات.
ويرى ميندوزا موري أن المؤسسات الأكاديمية والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة يمكنها أن تؤدي دورا مهما في توفير منصة لهذه اللغات والعادات والتقاليد حتى تحصل على التقدير اللازم.
وعلى سبيل المثال، يشير هذا الناشط والباحث البيروفي إلى أن الأمم المتحدة أعلنت 2019 سنة الاحتفاء الدولي بلغات الشعوب الأصلية كما أنها قررت جعل 2022 بداية عشرية لغات الشعوب الأصلية، وهاتان التسميتان تمثلان فرصة لزيادة الوعي بهذه الثقافات.
ولا يقتصر نشاط ميندوزا موري على هذه اللغات، بل يبحث أيضا في الطبيعة المعقدة للهويات الثقافية لمختلف مكونات الجالية اللاتينية في الأراضي الأميركية، والتفاوت والظلم الذي قد يعانيه هؤلاء في الولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار يقدم درسا عن الشعوب الأصلية اللاتينية، يركز فيه على الأعراق والهجرة والحقوق، والأفكار النمطية عن اللاتينيين، التي تضعهم كلهم في سلة واحدة بقطع النظر عن أعراقهم ولغاتهم ووضعهم القانوني في الأراضي الأميركية.
ويقول ميندوزا موري "هنالك فكرة بدأت تنتشر في الأميركيتين الجنوبية والشمالية، مفادها أن اللاتينيين اختلطوا فيما بينهم وأصبحت لهم هوية نمطية واحدة. ولكن في الواقع المسألة أكثر تعقيدا، فالموروث اللاتيني متنوع، واختصاره في نموذج واحد يؤدي إلى التقليل من قيمته، وهو الخطأ نفسه التي تعرضت له ثقافة الأفارقة في الولايات المتحدة".
وكمثال على تلك الأفكار النمطية الجاهزة "فإن المهاجرين من أميركا الوسطى، وهم من أحفاد حضارة المايا، يُشار إليهم على أنهم لاتينيون أو هيسبانيون (الثقافات المرتبطة تاريخيا مع إسبانيا) رغم أنهم لا يتحدثون الإسبانية أصلا".
ويأمل ميندوزا موري من هذه المحاضرات والبحوث الخاصة بالدراسات اللاتينية في الولايات المتحدة أن تمكّن جامعة "هارفارد" من المشاركة في حوارات معاصرة تخص التنوع الثقافي، وأن تشجع على إظهار هذا التنوع والاحتفاء به.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
اقرأ أيضا
فلسطين من زاوية الأدب العالمي.. نضال الشعوب الأصلية في المكسيك
الخريطة التي صورت رحلات الفايكينغ الأوروبيين لأميركا مزيفة
5 كتب ستغير طريقة تفكيرك في البيئة وتغير المناخ
الحرق الثقافي لحماية أستراليا.. معارف السكان الأصليين لإنقاذ الغابات من النيران