يبدو من المغامرة الحديث عن عالم ما بعد الحرب الأوكرانية، إذ ما تزال المواجهة مشتعلة، ومن السابق لأوانه كذلك الحديث عن تداعياتها ونتائجها على الساحة العالمية وعلى طبيعة العلاقات الدولية. ومع ذلك، فثمة مؤشرات ومعطيات بارزة تحتاج للفحص والتحليل، نرى أنها ولَّدت حقائقَ موضوعيةً من الصعب تجاوزها في المدى المنظور.
من هذه الحقائق أن الحرب الحالية، رغم انعكاساتها الواسعة على كل دول العالم، ظلت حرباً غربية روسية، فأغلب الدول غير الغربية نأت بنفسها عنها واختارت مواقفَ أقربَ للحياد على درجاته المختلفة. وظهر هذا التوجه في تصويت الدول داخل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث اختارت العديدُ من البلدان الحليفة للولايات المتحدة وأوروبا الغربية إما الامتناع عن التصويت أو الغياب عنه، في حين أن الصين التي تعتبرها روسيا شريكَها الأقرب حرصت على عدم التفريط في مصالحها الاقتصادية والتجارية مع الغرب رغم تشبثها بروابطها القوية مع روسيا، وهو الموقف الهندي ذاته.
وقبل أيام كتب الفيلسوف السولفني «سلافوي جيجك» مقالا انتشر على نطاق واسع في الصحافة الغربية تحدَّث فيه عن انتقال العالم إلى نوع من «السلم الدافئ» بدلا من الحرب الباردة بنظامها القطبي الثنائي. وقد اعتبر جيجك أن السلم الدافئ لا يتعارض مع الحرب، بل يقوم على نمط من الحروب المستمرة ضمن مناخ دولي متوتر، لم يعد لمنطق الردع النووي فيه أي فاعلية، مما ينذر بنمط من الفتنة الأهلية الشاملة التي تتغذى من الأزمات المناخية والفيروسية والبيئية التي تهدد الوجود البشري المشترك على الأرض. وفي هذا المناخ الذي رسمه جيجك يبدو التساؤل المطروح هو: هل يمكن للغرب اليوم في عودته لمعايير الشرعية القانونية الدولية أن يعيد بناءَ السلم العالمي للحيلولة دون انفجار الحروب المدمرة داخل عمقه الاستراتيجي ذاته، كما ظهر بداية من الحالة الأوكرانية الراهنة؟ للإجابة على هذا التساؤل، يتعين الرجوع إلى المفكر السياسي الأمريكي «جون ايكنبري» الذي نشر في الآونة الأخيرة كتاباً هاماً بعنوان «عالم آمن من أجل الديمقراطية: الأممية الليبرالية وأزمات النظام الدولي». الأطروحة الرئيسية في كتاب ايكنبري هي أن العالم الليبرالي حاول خلال القرنين الأخيرين بناءَ منظومة أممية لحفظ السلم داخل مجاله الحيوي بالاستناد إلى قيم ليبرالية عليا اعتبر أنها قابلةً للتعميم دولياً.
لقد كان دور الولايات المتحدة محورياً في هذه الديناميكية عبر المقاربات التي طرحها ويلسون ثم روزفلت وما نتج عنها من وضع قواعد معيارية للنظام الدولي انساقت لها كل دول العالم بما فيها البلدان غير الليبرالية. لا يتردد ايكنبري في اعتبار أن هذا النظام الليبرالي الأممي قد انهار عملياً لسببين أساسيين: التراجع التدريجي عن المنظور المعياري المبدئي للأممية الليبرالية من منطلق المصالح الاقتصادية والتجارية بما كرس القطيعة بين نظام السوق والقيم الحقوقية والإنسانية للفكر الليبرالي، وسياسات الحروب والتدخل العسكري لتغيير الأنظمة التي تبنتها الإدارات الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة دون احترام المعايير القانونية للنظام الدولي.
ولا شك في أن أطروحة ايكنبري تقدِّم عناصرَ جديةً في تفسير حالة الانفصام الملاحظة بين الكتلة الغربية وأجزاءَ واسعة من العالم هي في أغلبها من البلدان المرتبطة في مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومن أهم هذه العناصر فكرة «تغيير الأنظمة بالقوة» التي تبنتها الإدارة الأميركية في عهدي بوش الإبن (الجمهوري) وأوباما (الديمقراطي)، وكان المسرح الشرق أوسطي حقل تطبيقها الأساسي.
لقد صرح مؤخراً الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن بأن الولايات المتحدة لم تعد تؤمن بهذا الخيار ولا تتبناه حتى في البلدان المناوئة لها. بيد أن المشكل النظري الذي تعاني منه هذه المقاربة في العقل السياسي الأميركي ما يزال قائماً، لأنه يرتبط بفلسفة النظام الدولي التي يقوم عليها النظام الليبرالي الدولي، وهي القول بالتلازم الجوهري بين التركيبة الداخلية للحكم ودائرة التحالف الجيوسياسي، بما يعني عملياً أن الاندماج في منظومة التحالف الغربي يقتضي تطبيق نفس الخيارات السياسية والمجتمعية المطبقة في الدول الغربية.
إن هذه المسلمة تتجاوز التناقض التقليدي بين الاتجاهين المثالي والواقعي الذي يطبع الحالة السياسية الأميركية، وهي اليوم تصطدم بموجة اعتراض عارمة في مناطق عديدة من العالم لأسباب يتعلق بعضها بطبيعة المتغيرات المسجلة داخل المنظومة الليبرالية نفسها والتي فقدت جانباً كبيراً من زخمها القيمي والرمزية (الانتقال إلى الليبرالية التسلطية أو الرأسمالية الرقابية حسب البعض)، ويتعلق البعض الآخر بموازين القوة الجديدة المتقلبة في عالم اليوم. ومن هنا يمكن القول إن الحرب الأوكرانية الجديدة قد عكست بوضوح هذه التحولات والمتغيرات الهائلة.
*أكاديمي موريتاني