إفريقيا وفرنسا قصةٌ كُتبت تفاصيلها بالأشلاء والدماء والآلام؛ قصة تحكي أنانية الإنسان ووحشية المحتل؛ غرور واستكبار، ظلم واستعباد، سرقة ونهب وإفقار، تدمير للقيم والحضارات، طمس للهوية، وتشويه للتاريخ، وإعاقة للتقدم والرقي.
قصة فصولها لا تنتهي، ومآسيها وجروحها لا تندمل، بدأت منذ مئات السنين في حين غفلةٍ وساعة ضعفٍ من إفريقيا...!
فهل ستنتهي هذه الحكاية؟!
وهل آن لإفريقيا أن تتطهر من دنس فرنسا، الآن وقد تغيرت الموازين؟!
قد يُقال: ألم تنتهِ الحكاية بتحرر إفريقيا من الاحتلال الفرنسي في ستينيات القرن الماضي؟!
نعم! لقد تحررت من وجود الحاكم الفرنسي والحامية الفرنسية على أراضيها- فقط-، أما القرار والمال فهو يُدار عن بُعد من باريس.
لقد كان تحرراً منقوصاً، ولذلك أسبابه التاريخية والموضوعية، والتي ساهمت أيضاً في قمع وإفشال مشاريع التحرر الكامل، فقد حاول بعض الرؤساء التحرر من فرنسا وسياساتها الاستعمارية وهيمنتها.. ولكن تمّ اغتيالهم أو الانقلاب عليهم، ومنهم: «أحمد سيكوو توري» رئيس غينيا عام 1958م، فعندما أراد تحقيق الاستقلال الحقيقي، وقال جملته الشهيرة: «نحن نفضل أن نعيش بحريتنا على أن نعيش عبيداً بترف»، غضبت النخبة الاستعمارية الفرنسية في باريس، وللتعبير عن غضبهم الشديد قامت الإدارة الفرنسية بتدمير كل شيء في غينيا له علاقة بالاستعمار الفرنسي، أو ما يمثل «امتيازات الاستعمار الفرنسي» على حد قولهم، هكذا.. بهذه الصفاقة!
غادر ثلاثة آلاف فرنسي غينيا، حاملين كل ما يمكنهم حمله من أملاكهم، ومدمرين لكل ما لا يستطيعون حمله، كالمدارس، وحضانات الأطفال، والمباني الإدارية، كلها تم تفتيتها؛ كذلك السيارات، والكتب، والأدوية، ومعدات مراكز الأبحاث، والجرارات الزراعية، تم سحقها وتخريبها؛ أما الخيول، والأبقار في المزارع فقد تم قتلها، والطعام في المخازن تم حرقه أو تسميمه.
ومثله «سيلفانوس أوليمبيو»، أول رئيس منتخب لجمهورية توجو، لم يكن يريد لدولته أن تستمر تحت الوصاية الفرنسية، وبناءً على ذلك رفض التوقيع على اتفاقية استمرارية الاستعمار التي تقدمت بها فرنسا، لكنه وافق على دفع دَيْن سنوي لفرنسا، فيما يُعرف بـ«الاستفادات من المستعمر»، وصلت قيمته لـ40% من الناتج القومي، ولكنّه أوقف التعامل بعملة الفرنك الإفريقي، وقام بصك عملة جديدة- فقط-، وفي 13 يناير 1963م، بعد ثلاثة أيام من البدء في طباعة العملة الجديدة، قامت مجموعة من الجنود المدعومين من فرنسا بقتل أول رئيس منتخب.. حيث قُتِل على يد عضو سابق في الفيلق الأجنبي الفرنسي برتبة رقيب.
بل إنه خلال الخمسين عاماً السابقة؛ حدث ما مجموعُه 67 انقلاباً في 26 دولة إفريقية، 16 منها كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي، ما يعني أن 61٪ من الانقلابات حدثت في إفريقيا الناطقة بالفرنسية.. فمن يكون خلف هذه الانقلابات؟!
لقد خرجت فرنسا؛ وبقيت روحها ويدها الطويلة وعصاها الغليظة، وتركت رجالها الذين ربتهم على عينها، إذ كيف تفرّط فرنسا في منجم كبير مليء بمصادر الطاقة والمعادن النفيسة والموارد الطبيعية، وسوق واسع لتصريف بضاعتها وصناعاتها؟!
يلخص ذلك الرئيس الفرنسي ميتران هذا الوضع بقوله: «بدون إفريقيا؛ فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين».
ويؤكده الرئيس الفرنسي جاك شيراك: «بدون إفريقيا؛ فرنسا سوف تنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث».
اتفاقيات الاستقلال (اتفاقيات فرنسا في إفريقيا):
لقد خرجت فرنسا من إفريقيا بعد أن وقّعت مع كل دولة من مستعمراتها اتفاقيات– بعضها معلن، وبعضها سري- تضع مصالح فرنسا أولاً وقبل كل شيء..!
ومن بنود تلك الاتفاقيات:
- فرض ديون استعمارية لمصلحة المحتل الفرنسي:
الدول «المستقلة» ملزمة بدفع استحقاقات البنية التحتية التي بنتها فرنسا في هذه الدول خلال استعمارها لها.
مع أنها لم تبنها حُباً في الأفارقة، وإنما بنتها تسهيلاً لمشروعاتها الاستغلالية وتجارتها.
- مصادرة تلقائية للاحتياطيات القومية الإفريقية:
بموجب تلك الاتفاقيات؛ تبقى هذه الدول الإفريقية (مستعمرات فرنسا السابقة) ملزمة بإيداع احتياطياتها القومية من النقد في البنك المركزي الفرنسي.
وبهذا؛ تحتفظ فرنسا باحتياطيات النقد القومية لـ14 دولة إفريقية منذ عام 1961م: (بنين، بوركينا فاسو، غينيا بيساو، ساحل العاج، مالي، النيجر، السنغال، توجو، الكاميرون، جمهورية إفريقيا الوسطى، تشاد، جمهورية الكونغو، غينيا الاستوائية، الجابون).
- التحكم في السياسة المالية للدول الإفريقية:
السياسة المالية التي تحكم هذه المجموعة المتنوعة من الدول غير معقدة، لأنها في الحقيقة مُدارة من قِبل وزارة المالية الفرنسية، بدون الرجوع إلى أيٍّ من الإدارة المركزية لأيٍّ من الاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول إفريقيا الوسطى أو مثيله لدول غرب إفريقيا.
- حسابات الاستثمار والخصومات المالية:
تحت شروط هذه الاتفاقية؛ يلتزم البنك المركزي لتلك الدول بإيداع 65%- على الأقل- من احتياطياتها النقدية الأجنبية، فيما يُعرف بـ«حسابات الاستثمار» في خزانة الحكومة الفرنسية، بالإضافة إلى 20% لتغطية «الخصومات المالية».
عمليات السحب يجب أن تكون جميعها بموافقة الخزانة المالية الفرنسية، وهذا يعني أن الخزانة الفرنسية تقوم باستثمار الاحتياطيات الأجنبية للدول الإفريقية باسمها في بورصة باريس.
أكثر من 80% من الاحتياطيات الأجنبية لهذه الدول الإفريقية مودعة في «حسابات الاستثمار» تحت قبضة الخزانة المالية الفرنسية، حتى إن هذه الدول لا تعلم- أو يتم إعلامها- كم تملك من الاحتياطي النقدي الأجنبي في الخزانة الفرنسية..!
حسب تقديراتٍ؛ فإن فرنسا يوجد تحت قبضتها حوالي 500 مليار دولار من الأموال الإفريقية في بنكها المركزي!!! ولا تستطيع الدول الإفريقية الوصول لتلك الأموال! وتسمح فرنسا لهم بالوصول لـ15% فقط منها خلال السنة، وإذا كانوا بحاجةٍ للمزيد من أموالهم تلك فعليهم اقتراضها من الـ65% من الخزانة الفرنسية مقابل فوائد..!
بل إن فرنسا تفرض حدّاً أقصى للمبالغ التي يمكن لهذه الدول الإفريقية اقتراضها من احتياطياتهم المالية، والحد الأقصى هو 20% من إيرادات الحكومة للعام السابق، وإذا رغبت إحدى هذه الدول في اقتراض المزيد؛ فإن فرنسا لها حق الرفض.
هذا الاستعمار والتحكم المالي؛ استهجنه حتى شركاء فرنسا الأوروبيون، حيث اتهم نائب رئيس الحكومة الإيطالي فرنسا بإفقار إفريقيا، وأشار إلى أن «اتفاقيات الاستقلال» تجعل من فرنسا خامس اقتصاد في العالم، ولو توقف ما تأخذه باريس من الدول الإفريقية لكان اقتصادها في المرتبة 15 عالمياً.
- ومن بنود «اتفاقيات الاستقلال»: أن الأولوية لفرنسا والشركات الفرنسية في الحصول على العطاءات والمناقصات العامة:
وبالنسبة لتخصيص عقود الحكومة؛ يجب أن توضع الشركات الفرنسية في الاعتبار أولاً.
- فرنسا لها الحق في نشر قواتها والتدخل العسكري في إحدى هذه الدول للحفاظ على مصالحها:
فتَحْت ما يُسمى «اتفاقية الدفاع»، الملحقة بالاتفاق الاستعماري، فرنسا لها الحق القانوني للتدخل العسكري في هذه الدول الإفريقية، وأيضاً تتمركز قواتها بشكلٍ دائم في قواعد عسكرية في هذه الدول، وتُدار بشكل كامل من الفرنسيين.
- ومن البنود الرئيسة: الالتزام بجعل اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة الفرنسية وأيضاً لغة التعليم:
«نعم سيدي! أنت تحتاج إلى أن تتحدث الفرنسية، لغة موليير»، تم تأسيس منظمة لنشر الثقافة الفرنسية، وكذلك نشر اللغة الفرنسية، تحت مسمى «المنظمة الدولية للفرانكفونية»، مع عدد من الأقمار الصناعية والمنظمات التابعة لها تحت رعاية وزارة الخارجية الفرنسية.
وما خفي كان أعظم! والعجيب أن هذا الظلم والتوحش والاستغلال يُقدّم ويُسوّق مغلفاً بعنوان (المهمة الحضارية)، ومن بلد يُسمى (بلد الأنوار)، إنها فعلاً مهمة حضارية كشفت عن حضارة المادة والتوحش والأنانية الغربية.
ونعود إلى سؤالنا:
هل يستطيع الجيل الجديد أن ينهي فصول هذه الحكاية المؤلمة، ويطهر الأرض الإفريقية من عبث فرنسا وسرقاتها للشعوب الإفريقية؟
نعم! يستطيع ذلك، والمعطيات والإمكانيات المتوفرة لديه الآن تساعده على ذلك.
نعم! يستطيع- بإذن الله- إذا توفرت فيه الإرادة والوعي والتعاون:
- إرادة: تجعل التحرر والاستقلال أولوية في حياته، يوجه لها كل طاقاته، ويوظف كل ما يملك لتحقيقها.
- وعي: يعرّفه بقدراته ومصادر قوته، وأن فرنسا بدون إفريقيا لا شيء، وليس العكس، وعي ينشره في مجتمعه ليكون سنداً له في مشروع التحرر، إن كل شخص قادر- من خلال الفضاء المفتوح– أن يصل بعلمه وفكره إلى جمهور واسع ومتنوع الأطياف، لقد انتهى زمن التحكم والسيطرة في وسائل الإعلام والتعليم، فهل تم استثمار ذلك استثماراً سليماً ومفيداً؟!
- تعاون واجتماع بين أبناء القارة: فالهَمّ مشترك، وهذا ما نشاهده ونلمسه من روح التعاون والتساند والاجتماع على قواسم مشتركة وقضايا كبرى، والتحرر من قيود خطوط الحدود التي رسمها المستعمر، وهو تعاون يبشر بالخير إذا ما تم تفعيله وتطويره، وتحويله إلى مبادرات عملية وبرامج مشتركة.
والأمل كبير في الجيل الجديد لتحقيق استقلال حقيقي وكامل، وبناء نهضة ورخاء واستقرار لأمتهم، وليكن الهدف والشعار: إفريقيا أَوْلَى بثرواتها من فرنسا، وأبناؤها أَوْلَى بلغاتهم وثقافاتهم من اللغة والثقافة الفرنسية.
..................
*مجلة قراءات إفريقية- افتتاحية العدد 48-