لم تكن البنية الاجتماعية يوما حالة سرمدية؛ ذلك أن كل بناء تركيب، وكل مركب ينحل. وقد يعاد تركيبه بشكل مختلف وفق ما يستجد من حاجات وظروف. فقد نشأ مجتمعنا، مثل كل المجتمعات البشرية، استجابة لتحديات واجهت مجموعة بشرية فنظمت نفسها لتتكيف مع محيطها الطبيعي فتوزعت الأدوار وفقا للمهارات التي تحتاجها المجموعة، وفقا لقانون تقسيم العمل. ولم ترتبط المهن، في المجتمعات القديمة، بالنظرة الدونية بدليل أن رسل الله كان فيهم النجار، والحداد، واسترق يوسف عليه السلام… واحتفظ الإسلام لأصحاب المهن بمكانتهم الاجتماعية فكان من علمائه الأجلاء الغزال، والقواريري…
غير أن الإيغال في الترف وجبروت السلطان ستقسم المجتمع إلى قاهر ومقهور ليتردى أصحاب المهن، رغم دورهم الرئيس في الحياة الاقتصادية، في قاع المجتمع الذي أصبح مغلقا بالولادة بعد أن كان مفتوحا بالمهارة. رافق توارث السلطة والمال والجاه والمهنة أحكام قيمة خلقت رأسمال رمزي ينتجه أصحاب المهن في قاعدة الهرم، لكنه يتراكم لدى فئات أخرى في رأس الهرم. ومثلما يحدث في السوق الرأسمالية، يستحوذ صاحب رأس المال الرمزي على فائض القيمة الاجتماعية ليحرم منه الطبقات المهمشة؛ المعادل الوظيفي للطبقة الكادحة. ومثلما ثارت الطبقة الكادحة لاسترجاع فائض القيمة الذي سرقه الرأسمالي، ثارت الطبقات المهمشة لاسترجاع فائض القيمة الرمزي الذي استحوذ عليه أبناء الذوات. فعاد المجتمع سيرته الأصلية منفتحا بالمهارات لينقلب الهرم الاجتماعي دائرة ينتظم فيها أبناء المجتمع وفقا للأدوار التي اختاروا النهوض بها بغض النظر عن المولد والمحتد.
لقد جاء خطاب فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في مهرجان وادان ليذكر بهذه الحقائق مشددا على مفهوم المواطنة الذي ينتظم فيه أبناء المجتمع على قدم المساواة، داعيا إلى تنقية تراثنا من رواسب التهميش والغبن. فالوحدة الوطنية لا يمكن أن تتحقق إلا في مناخ الأخوة والمساواة التي تتحقق بالتعايش السلمي بعيدا عن ابتزاز المظلوميات بحمل أوزار السلف على الخلَف.
لقد آن لنا أن نعيش في توافق مع متطلبات الدولة الوطنية، ونتقبل مساطرها الاجتماعية التي اختزلت الأنساب في رقم وطني يحدد هوية المواطن في تسلسل رقمي لا يحتمل أحكام القيمة من قبيل وضيع وشريف… كن ابن من شئت واكتسب رقما وطنيا.