قرنان مرا منذ أن دخلت العربية جنوب السودان، مرت خلالهما بأوقات مختلفة انتشارا وانحسارا، وكانت السياسة السبب الرئيسي وراء هذه التغيرات، ويبقى الانفصال وبروز جمهورية جنوب السودان حدثا مفتوحًا على أسئلة عديدة، بينها السؤال عن أوضاع اللسان العربي في الدولة الوليدة.
تذهب أغلب الآراء إلى أن دخول اللغة العربية جنوب السودان كان عام 1821، بعد أن تشكلت خريطة جديدة للسودان، على أيدي قوات محمد علي باشا.
ومع التداخل بين قبائل الجنوب وقبائل الشمال نشأت حركة اجتماعية وتجارية قديمة جدا. ويؤكد الدكتور شول دينق في حديثه للجزيرة نت وجود تداخل وتماس قبلي يقود بلا شك إلى وجود تداخل وتماس لغوي.
ولأن الارتباط بين ما هو لغوي واجتماعي قوي ومستمر، يواصل الدكتور شول إفادته قائلا "لم تنتشر العربية إلا في حدود ضيقة، في ما اقتضتها المعاملات التجارية، وربما أدخلت على اللغات المحلية مفردات لأشياء لم يعرفها الجنوبيون في ذلك الحين، لكن دخول العربية بشكل رسمي وكبير كان مع حملة محمد علي باشا، بعد أن صارت لغة السلطة والحكم، وزاد هذا الانتشار مع استيعاب عدد كبير من الجنوبيين في الخدمة العسكرية".
ورغم أن هذا الرأي هو الغالب، فإن الدكتور عبد الله دينق له رأي آخر، إذ يقول "لدي فرضية لم أثبتها بعد تذهب إلى أن دخول العربية إلى الجنوب كان منذ سلطنة سنار (1505-1821)".
ويؤكد دينق الرأي السائد أن الانتشار الأكبر للغة العربية في جنوب السودان كان قبل قرنين من الآن، وأنها ازدهرت مع حركة التجار والدعاة والمشايخ، ودخول عدد كبير من الجنوبيين في الإسلام، وذلك ما أعطى اللغة بعدا إضافيا.
قانون المناطق المقفولة
بعد سقوط الدولة المهدية ودخول السودان في حقبة استعمارية تحت التاج البريطاني، بدأ النشاط الإرسالي يظهر بقوة في الجنوب، وعمرت المدن بالكنائس والإرساليات الأوروبية، التي قامت بتنصير عدد كبير من الجنوبيين، وبدأت نشر الإنجليزية واستخدامها مع اللغات المحلية في التعليم بدل العربية.
كما قامت السلطات بابتعاث الطلاب الجنوبيين لأوغندا، بدل إرسالهم لكلية غردون، ثم كان إطلاق قانون المناطق المقفولة، الذي حد من حركة الشماليين في جنوب السودان، وصارت إقامة الشماليين وتنقلاتهم تحتاج لإذن إنجليزي صعب المنال.
ويرى المستشار القانوني المدني محمد أن القانون صيغ لجعل الجنوب قابلا لخيارات مختلفة -كما هو معلوم تاريخيا- منها ضمه إلى أوغندا، أو فصله ليكون دولة منفصلة بذاتها.
ويواصل إفادته للجزيرة نت بأن "قانون المناطق المقفولة منع الاندماج الطبيعي بين الشمال والجنوب، بمنعه إقامة الشماليين في الجنوب، وصعوبة استصدار إذن الزيارة، ومحاربة المظاهر التي تمت إلى الشمال، والمظاهر الإسلامية والعربية، وبلغ الأمر منع الجنوبيين من ارتداء العمة والجلابية، فهو قانون عنصري".
ويتابع المدني قائلا "ويذكر مؤرخو تلك الحقبة أن التضييق على العربية وصل إلى منع المحاكم الشرعية والموسيقى والأغنيات، وكل ما يمكن أن يشكل ذائقة أو مزاجا عاما".
لكن ومع نهاية عام 1946، سقط هذا القانون، وبدت حقبة أخرى عاد فيها التواصل بين الشمال والجنوب، وبدأت العربية استرداد بعض ما فقدته في الجنوب، إلى أن جاءت الحكومة الوطنية، وصارت العربية لغة رسمية للقطر السوداني الموحد، حسب إفادة المدني.
ما بعد الانفصال
عملا بحق تقرير المصير الذي منحته اتفاقية نيفاشا عام 2005، جرى تنظيم استفتاء لأبناء جنوب السودان في يناير/كانون الثاني 2011، أفضى إلى الانفصال وميلاد جمهورية جنوب السودان، لتنقضي فترة من الحروب والمحن، التي ألقت بظلالها على الثقافة، وتولدت بعض الحساسية تجاه اللغة العربية، رغم الأواصر والعاطفة الشعبية القوية.
اختار الجنوبيون في دستورهم اللغة الإنجليزية لغة رسمية، مضافا إليها اللغات المحلية.
ورغم أن الشارع يتحدث بعربية جنوبية الملامح، فإن الدواوين الحكومية والمعاملات تجري بالإنجليزية وفق ما تم الاتفاق عليه، ويعرف الأستاذ المدني اللغة الرسمية "بأنها اللغة التي تستخدمها دولة ما في دواوينها ومعاملاتها، وقد تكون لغة واحدة أو أكثر".
كما اختيرت الإنجليزية لغة التعليم -بطبيعة الحال- لكن الحكومة الجنوبية رأت تدريس اللغة العربية لغة ثانية، ابتداء من مرحلة التعليم الأساسي، وتحديدا في السنة الدراسية الخامسة، ويستمر إلى نهاية المرحلة الثانوية.
بعد انفصال حكومة جنوب السودان سياسيا عن الشمال، سعى وزراؤها ليكون الانفصال كاملا، وتجلى ذلك بدعوة وزير التربية والتعليم حسين مايكل ميلي للتخلص من المناهج التي تستخدم اللغة العربية في جميع مدارس الجنوب، والاتجاه إلى تكثيف تدريس اللغة الإنجليزية. ويرى خبراء أن خطوة كتلك يمكن أن يمتد أثرها السلبي على علاقات الدولة الجديدة بالعالم العربي.
وظلت اللغة العربية تمثل القاسم المشترك لكافة قبائل الجنوب المتعددة ذات الازدواج اللغوي؛ فهي لغة التواصل والتفاهم، فهناك المجموعة الاستوائية التي أطلقت على لغتها "عربي جوبا"، ومجموعة (واو) أطلقت "عربي واو"، وهي لغة عربية خليط من اللهجات المحلية.
التحول من اللغة العربية إلى الإنجليزية أو غيرها من اللغات في دولة جنوب السودان يراه مراقبون تحديا؛ فهناك أكثر من مليون ونصف المليون طالب في مختلف المراحل الدراسية تلقوا تعليمهم باللغة العربية في الشمال، عادوا إلى الجنوب عقب الانفصال، إضافة إلى المساحة الواسعة التي تحتلها العربية كلغة تخاطب يومي بين سكان الجنوب.
عربي جوبا
يتميز جنوب السودان بتعدد لغوي كبير، عشرات اللغات الحية، وتندرج تحت كل لغة لهجات يختلف عددها باختلاف اللغة والقبيلة وأفخاذها.
يتحدث غالبا أهل الجنوب بلغاتهم المحلية، عندما يكون المخاطب من القبيلة ذاتها، لكن عندما يدور الحديث بين شخصين من قبيلتين مختلفتين فإنهما يتحدثان بعربية عامية، فيها أثر اللغات المحلية وخصائصها، والتي اصطلح على تسميتها "عربي جوبا"، وتكاد تكون هذه العربية هي لغة الخطاب اليومي، التي يتعامل بها المواطن البسيط، في حين يميل المسؤولون الكبار والساسة للحديث بالإنجليزية فيما بينهم.
ويستدرك الدكتور عبد الله دينق نيال على مفهوم المصطلح في الشمال في إفادته للجزيرة نت قائلا "البعض يظن أن عربي جوبا هي العربية التي يتحدث بها أهل جنوب السودان، والحق أنها العربية التي يتحدث بها أهل جوبا وما حولها، هناك أكثر من لهجة عربية في الجنوب تختلف باختلاف المناطق والقبائل، ذلك أن لكل لغة من اللغات المحلية خصائصها؛ هناك حروف ومخارج موجودة في لغة، وغير موجودة في أخرى، لكن لأن جوبا العاصمة صار الأمر موصولا بها".
ويضيف نيال أن "اللهجة المسماة عربي جوبا هي العربية التي تتحدثها قبيلة الباريا، فبعض ملامحها من حيث المخارج وأصوات الحروف، وكذلك الحال في اللهجة العربية في مناطق أخرى من الجنوب".
ويرى الدكتور شول دينق أن العربية أو "عربي جوبا" لا تنبع أهميتها من كونها جسر تواصل بين المكونات الجنوبية، وأنها اللغة اليومية فقط؛ "فهناك بعض الجنوبيين، خاصة الذين كانوا في الشمال، فقدوا لغتهم الأم، وصارت العربية لغتهم التي يتحدثونها في منازلهم".
أكثر من لغة تخاطب
لم تنحصر العربية في جنوب السودان في التواصل والتخاطب فقط، كما قد يظن البعض، لكن الأمر تجاوز ذلك إلى الإبداع الكتابي، وبرزت أسماء كثيرة قدمت الكثير للثقافة السودانية عندما كان السودان واحدا، وقادت المشهد الثقافي بعد الانفصال.
من أشهر أدباء العربية في جنوب السودان الروائية والقاصة ستيلا قايتانو، بمجموعتها الأبرز "زهور ذابلة"، والراحل السر أناي (أستاذ جامعي وشاعر وصحفي)، ونيالاو حسن صاحب ديوان "قرابين نيكانق"، وأتيم سايموند وديوانه الأشهر "وخز الوطن"، وغيرهم من علماء ومثقفين أسهموا بشكل واضح وملموس في الحركة الثقافية السودانية.
ولم يمنع انفصال جنوب السودان من وجود إبداع كتابي من أجيال ما بعد الانفصال، ويرى الشاعر دوث دينق بوث "أن الشعر حياة الجنوبي في حربه وحصاده وكل حياته، لذا فهو موجود سواء كان بلغة الجنوبي المحلية أو باللغة العربية".
لكنه يتحسر في حديثه للجزيرة نت على الأوضاع الأمنية غير المستقرة والحروب التي صرفت الاهتمام عن كل ما هو ثقافي وإبداعي، رغم أجيال الأدباء والمبدعين المتواصلة، وتضاف إلى ذلك مشكلة النشر.
ويقول إن بعض الشعراء والأدباء الجنوبيين وجدوا متنفسا لهم في الخرطوم، آملين أن ينقلوا للعالم صورة عن بلادهم بعيدة عن الحرب وأحاديثها.
المصدر : الجزيرة