مدية "ودان" التي عرفتها ليست تلك المدينة التي تحدث عنها الوزان في القرن العاشر الهجري، ولا مارمول من بعده، ولا تلك المدينة المتخيلة التي يتحدث عنها الإعلام الموريتاني .
في منتصف السبعينات انتقلنا - بسبب حرب الصحراء الغربية - من "انكذيرة" إلى المدينة وسكنا قرب الجامع العتيق ، لم تكن صلاة الجمعة تقام في المدينة، كما لم تكن صلاة الجماعة تقام فيها بانتظام ( قد يصلي في المسجد شخص واحد أو اثنان، وقد لا يصلي فيه أحد )، وكانت الخفافيش تحتل سقف المسجد وجدرانه، رغم أنه لم يكن يوجد في المدينة كلها إلا المسجد العتيق .
كانت بعض الأطلال التي تمرون بها اليوم هامدة كأن لم تغن بالأمس، أو ترونها في وسائل الإعلام، آهلة بالسكان، تمور بالحياة رغم صعوبة العيش ( يمتاح السكان الماء من ابار في سفح الهضبة ، ويحملونه في قرب على الحمير، أو على أكتافهم)
1. الشارع الذي يعرف – الآن – بشارع "الاربعين عالما " كان مأهولا ، ولم يكن يحمل هذه التسمية، ولم يذكر الطالب أحمد المصطفى بن طوير الجنة وجود شارع بمدينة وادان بهذا الاسم، بل قال إن وادان في الزمن القديم كان يوجد بها أربعون دارا متوالية في كل واحدة منها عالم، بينما الشارع المذكور جديد مقارنة بالفترة التي عاش فيها الطالب أحمد المصطفى بن طوير الجنة ( القرن الثالث عشر الهجري)، وكل دار في هذا الشارع يُعرف مالكها الأصلي وتاريخ وفاته، بل إنني أعرف أشخاصا ولدو وعاشوا جزءا من حياتهم في الدار التي يوجد بها ضريح الطالب أحمد المصطفى بن طوير الجنة نفسه، واعتقد أنها أقدم من الدور التي توجد في الشارع المذكور "لمسكم" ( وهي تسمية يقدح فيها أنها ليست من لهجة آزير التي كانت مهيمنة في مدينة وادان على مجال العمارة والزراعة ).
2. أما "بولل" وهو - الشارع الرئيس الذي يشق المدينة طولا وتنفتح عليه طرق فرعية من الجانبين تتجه إلى باقي أجزاء المدينة فقد كان أكثر حيوية ونشاطا في هذه الفترة.
3. ربما تكون الأمطار الغزيرة التي تهاطلت على مدينة وادان سنة 1980م والتي تضررت منها دور المدينة القديمة، وخاف منها السكان، أسهمت في هجران المدينة العتيقة، وبناء منازل "حديثة"، فضلا عن تشكل منازل حديثة – قبل هذا التاريخ - على بعض أطراف المدينة بما في ذلك "الحوانيت" التي لم تكن موجودة في المدينة القديمة
4. لم يكن هناك تفاوت اجتماعي كبير، بل كان التكافل والتراحم جزءا من النظام الاجتماعي، وادركت الناس يتبادلون بعض البضائع سدا لحاجاتهم الضرورية ( تمر مقابل قمح أو شعير ).
5. حولت حرب الصحراء الغربية ليل المدينة الدامس إلى نار تلتهم الهدوء وتمزق الصمت، ورصاص يلعلع فوق رؤوس سكانها العزل، وتم احتلال المدينة ليلة كاملة ( لم يكن يوجد بها إلا رئيس مركز إداري وكاتبه، وحرسي أو اثنان لا أدري عددهم). اختبأ الحاكم في أحد المنازل، أما الكاتب فقد أسرته جبهة البوليساريو وطاب له المقام هناك.
عندما أعادت جبهة البوليساريو الكرة – ضحى - وجدوا رجال المدينة قد تسلحوا، وأوهموا إخوانهم المهاجمين أن المدينة ما زالت "مدنية" على حالها لقمة سائغة للمسلحين، وما إن اقترب أحد أفراد الفرقة المهاجمة حتى تناوشه الرصاص المنطلق من البنادق التي يحملها أعيان المدينة، وقائدهم الحرسي، فخر ميتا – رحمه الله تعالى - ...بقية القصة اتحفظ على ذكرها.
وان نسيت فلن أنس تلك السيدة الفاضلة التي كانت تخاطر بحياتها كي تسقي الجنود الموريتانيين أثناء ذلك الهجوم العنيف الذي تعرضت له مدينة وادان، بعد مذبحة "ما يعتك" الرهيبة، وقد دام هذا الهجوم قرابة 7 أو 8 ساعات، أظهر فيها أهل المدينة قدرا من البطولة يتماشى مع الصورة المتخيلة لديهم عن أنفسهم
6. في بداية 2020 سلكت طريق :" بولل" رفقة اثنين من أبناء عمومتي وعندما مررنا بأحد البيوت المتهدمة في طريق "بولل"، وقفت "أندب أياما لنا ولياليا " أبكي زمن الصبا وفراق الأحبة، حيث كان ذلك البيت عامرا بالجود والكرم والأخلاق والثقافة والأدب مأوى لنا ومنتدى وبوتقة جامعة... وكأن لسان حالي يقول
أهكـذا أبــداً تمـضـي أمانيـنـا ** نطوي الحياةَ وليلُ المـوت يطوينـا
تجري بنا سُفُـنُ الأعمـارِ ماخـر ةً ** بحرَ الوجـودِ ولا نُلقـي مراسينـا؟
يا دهرُ قفْ، فحـرامٌ أن تطيـرَ بنـا ** من قبـل أن نتملّـى مـن أمانينـا
وقد قلت لمرافقي في هذا البيت الذي تظنون أنه يعود إلى زمن سحيق تعرفت – عن طريق القراءة - على كثير من العلماء والمفكرين، والكتاب والأدباء والشعراء، والمجددين والساسة، وقرأنا مجلات وكتبا وتجادلنا كثيرا وتحدثنا في أمور نعرفها، وفي أمور لا نعرف عنها شيئا، ولا نعرف أننا لا نعرف عنها شيئا....................
وفي هذا البيت المتهدم طالما استمتعنا بصوت أم كلثوم، والعندليب الأسمر وغيرهم، وهم يحلقون في ملكوت الفن الذي لا نهاية له ولا مستقر، وقرأنا قصائد الشعر العربي والشنقيطي فرحم الله زمنا ولى هاربا كالحلم