جاستن لينغ
جلست سيندي بلاكستوك في صمت مذهول تشاهد رئيس الوزراء جاستن ترودو وهو يدافع عن سجله في مناظرة.
"كيف عساك تندد بالعنصرية حيناً وحيناً آخر تأخذ أطفال السكان الأوائل إلى المحكمة"، سأله جاغميت سينغ، زعيم حزب اليسار الوسطي المعارض في كندا.
رد عليه ترودو بحدة: "سيد سينغ، يظهر أنك تحب عبارة محاكمة أطفال السكان الأوائل. والحقيقة أن ما تفضلت به غير دقيق وعار من الصحة".
إجابة ترودو هذه صدمت بلاكستوك، كيف لا وهي التي حاربها ولا يزال يحاربها محاموه في المحكمة. "لديك كل الحق القانوني في محاربة أطفالنا، لكن ليس لديك الحق في الكذب بشأن ذلك"، أشارت بلاكستوك في حديث أخيراً.
فمنذ ما يقرب من 15 عاماً وبلاكستوك تكافح وتناضل من أجل مسألة غاية في البساطة، ألا وهي منح أطفال السكان الأوائل في كندا، الذين ينتهي بهم الأمر غالباً في رعاية الدولة، حق الحصول على الخدمات والدعم والتمويل، شأنهم شأن أطفال السكان غير الأوائل. وعلى مدى تلك الأعوام الـ15، كانت الحكومة الكندية تعترض طريقها وتعارض كل خطوة تقوم بها في هذا الاتجاه.
وكانت بلاكستوك ومنظمتها "جمعية رعاية الطفل والأسرة من الأمم الأولى في كندا" (First Nations Child and Family Caring Society of Canada)، رفعتا أول طلب لدى المحكمة الكندية لحقوق الإنسان عام 2007. وبعدما انضمت إليهما "جمعية الأمم الأولى" (AFN) التي تمثل حوالى 900 ألف شخص من السكان الأوائل، تقدمتا بادعاء ضد الحكومة الكندية على أساس التمييز المنهجي الذي تمارسه بحق أطفال السكان الأوائل.
فبحسب ما أخبرتني به بلاكستوك، "نظام الخدمة العامة في كندا هو نظام عنصري بكل ما للكلمة من معنى". لكن وفق أوتاوا، كل ما فعلته الحكومات المتعاقبة هو دحض شكاوى بلاكستوك، من منطلق أن ما قامت به في حدود هذا الموضوع أكثر من كافٍ وأنها في النهاية ليست مسؤولة.
وفي كندا، تأخذ الحكومة الفيدرالية في أوتاوا على عاتقها تمويل جانب كبير من الخدمات الاجتماعية، على غرار الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية والتعليم، لكن المقاطعات والأقاليم هي المعنية بتقديم هذه الخدمات وإيصالها إلى المواطنين والمقيمين الكنديين، باستثناء قرابة 1.5 مليون من السكان الأوائل: يعيش كثيرون منهم في محميات تديرها الحكومة الفيدرالية ويحكمها "القانون الهندي" المقيت المتوراث عن الحكم البريطاني، ويتوزع بعضهم على المجتمعات الشمالية أو الأمم الموقعة على اتفاقيات الحكم الذاتي، ويسكن جزء لا يُستهان به منهم خارج مجتمع الأمم الأولى.
وفي المبدأ، الحكومة الفيدرالية الكندية مسؤولة، بدرجات متفاوتة، عن توفير الخدمات الاجتماعية لتلك المجتمعات المحلية المتباينة - بدءًا من خدمات دعم الصحة النفسية، مروراً بالرعاية البديلة، وصولاً إلى الرعاية الطبية الأولية والأساسية. لكن أوتاوا حاولت وتحاول منذ أمد طويل التملص من هذه المسؤولية ونقلها إلى المستويات الأدنى في الحكومة، الأمر الذي أسفر عن نتائج مجحفة وغير منصفة بتاتاً بحق جوردان ريفر أندرسون.
وُلد أندرسون عام 1999 في مستشفى وينيبيغ. وكان يعاني من اضطراب عضلي نادر يتطلب عناية طبية مستمرة. ولما كبر قليلاً، أمل والداه في إعادته إلى منزله في محمية "نورواي هاوس" للسكان الأوائل من أمة كري. لكن حين وصل الأمر إلى تحديد هوية المسؤول، بين مقاطعة مانيتوبا والحكومة الفيدرالية، عن دفع تكاليف إعادة أندرسون إلى بيته، أشارت كل جهة منهما إلى الأخرى.
توفي أندرسون في المستشفى وهو في الخامسة من عمره ومن دون أن تتسنى له فرصة الذهاب إلى مجتمعه الأصلي. وهو كان انتظر عامين طويلين انتهاء الحرب الضروس بين السياسيين والبيروقراطيين حول من سيتحمّل أعباء علاجه، لكن من دون جدوى.
"أجد صعوبةً في تقبّل الأمر – الخسارة والألم، لا سيما عندما تكون الأوقات العصيبة من نصيب أبنائك أيضاً"، أوضح إرنست، والد أندرسون، في فيلم وثائقي صدر في وقت سابق من هذا العام بعنوان: "جوردان ريفر أندرسون، الرسول" (Jordan River Anderson, The Messenger).
وبعد هذه المأساة، بدأت مجتمعات السكان الأوائل تنظّم نفسها حول مبدأ توجيهي أساسي: عندما يتعلق الأمر برفاهية الأطفال، يتوجب على الحكومات أن تضع خلافاتها البيروقراطية جانباً وتركز على ضمان الرعاية الكاملة والعادلة للأطفال. وأطلقوا على هذا المبدأ تسمية "مبدأ جوردان". وعام 2007، نال المبدأ موافقة مجلس العموم الكندي بالإجماع.
في غضون ذلك، واصلت أوتاوا حربها القضائية على بلاكستوك وأطفال السكان الأوائل. وعام 2016، انحازت المحكمة إلى جانب بلاكستوك واعتبرت أن أوتاوا تتعمد توفير تمويل غير كافٍ لبرامج رعاية الأطفال الخاصة بالشعوب الأصلية وأنها تمييزية بشكل تام وأن هيكلية برامج التمويل الحكومية "تديم الحوافز لإخراج الأطفال من منازلهم".
وكان هذا التصميم صارخاً. فقد بدأت كندا لتوّها بمواجهة إرثها المتمثل في اختطاف أطفال السكان الأوائل وإجبارهم على المكوث في عهدة الدولة. على مدى عقود، منذ القرن التاسع عشر وحتى تسعينيات القرن العشرين، حافظت كندا على نظام تعليمي من مستويين: أحدهما يخص أطفال السكان غير الأوائل والآخر يخص أطفال السكان الأوائل المسلوخين عن مجتمعاتهم والمرسلين للعيش في المدارس الداخلية التي تديرها الدولة والكنيسة. وكان الهدف من وراء هذا النوع من المدارس – التي تتفشى فيها التجاوزات الإدارية وسوء المعاملة - فصل الأطفال عن ثقافتهم ولغتهم وهويتهم. وفيها، كان أطفال السكان الأوائل يموتون بمعدل أعلى بكثير من الأطفال البيض. نعم، هذا صحيح. لقي ما لا يقل عن 3200 طفل حتفهم في تلك المدارس، غالباً بسبب أمراض قابلة للعلاج والانتحار والإهمال. وفي الأشهر الأخيرة، عثرت مجتمعات السكان الأوائل على أدلة دامغة على وجود قبور جماعية غير مميزة في المواقع السابقة للمدارس إياها.
ولما بدأت المدارس الداخلية تفقد بريقها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لجأت الدولة الكندية إلى سياسة ممنهجة لاختطاف أطفال السكان الأوائل، غير آبهة بنحيب الأمهات ومناشدات الوالدين، ووضعهم في رعاية المقاطعات أو دور الرعاية الخاصة بالبيض في الولايات المتحدة وكندا: حقبة مظلمة يشار إليها الآن باسم "مغرفة الستينيات".
وأسهم إرث هذه الحقبة في إشعال فتيل حوار وطني مهم حول ما يمكن أن يعنيه تصحيح المظالم التاريخية والحالية، سواء بالمصالحة أو بالاعتراف المتنامي بأن السلوك الذي اعتمدته الدولة الكندية بحق أطفال السكان الأوائل وانتزاعها لهم من أحضان أهاليهم هو شكل من أشكال الإبادة الجماعية.
الوقت حان لتسوية الحسابات القديمة والحذو حذو الولايات المتحدة ونيوزيلندا وأستراليا وغيرها من الدول التي سارت على هذا الدرب بسرعات مختلفة وطرق مختلفة أيضاً.
ففي 2019، توصّل "التحقيق الوطني في نساء وفتيات السكان الأوائل المفقودات والمقتولات" الذي شارك فيه 2380 شخصاً إلى استنتاج مفاده بأن الدولة الكندية ارتكبت إبادة جماعية بحق السكان الأوائل. وجاء في خلاصته أن "الهياكل والإجراءات الاستعمارية، من قبيل القانون الهندي ومغرفة الستينيات والمدارس الداخلية وانتهاكات حقوق الإنسان وحقوق شعوب الإنويت والميتي والأمم الأولى، هي السبب وراء هذه الإبادات ولكل منها دور مباشر في رفع معدلات العنف والوفاة والانتحار بين السكان الأوائل إلى ما هي عليه اليوم".
وما التصور بشأن نهج كندا تجاه رفاهية السكان الأوائل واستمراره في نشر مستوى غير كافٍ من الرعاية مع إرغام أطفال السكان الأوائل على الخروج من مجتمعاتهم، سوى تأكيد واضح ومقلق لما ورد في تحقيق عام 2019: لا يزال كثير من السياسات الاستعمارية الكندية "موجوداً إلى اليوم لكن تحت ستار مختلف"، "نذكر من بين هذه السياسات على سبيل المثال لا الحصر: التدابير الاستباقية لتدمير الشعوب الأصلية وإدماجهم والقضاء عليهم" و"إغفال الحكومة الكندية عن ضمان معايير السلامة والمساواة والوصول إلى الخدمات الأساسية وما يترتب عن ذلك من عواقب مباشرة وخطيرة على مجتمعات السكان الأوائل".
لكن التخلي عن التاريخ الاستعماري البغيض أسهل قولاً من فعله، إذ لما تولّى ترودو رئاسة الحكومة عام 2015، تعهد بتخصيص جام وقته لتحقيق المصالحة والتعويض عن الأخطاء التاريخية. حينها، وضع كثرٌ من السكان الأوائل ثقتهم بهذا الوعد، لكنه ردّهم خائبين.
وعلى الرغم من ارتماء هذا القرار المدمر عند أقدام أوتاوا وعلى الرغم من خطاب ترودو شديد اللهجة، سرعان ما وصل موضوع المصالحة إلى حائط مسدود. وفي الأعوام الأولى لترودو في الحكم، أقرّت المحكمة، نظير أربع مرات، فشل الحكومة الكندية في الامتثال لأوامرها وانتهاكها "مبدأ جوردان"، مع استمرارها في ممارسة التمييز ضد أطفال السكان الأوائل، وتقاعسها عن زيادة التمويل المخصص لهم، ليتساوى بما يحصل عليه أطفال السكان غير الأوائل، ومحاولتها من دون انقطاع نقل المسؤولية إلى المستويات الحكومية الأخرى. وفي 2019، أجرت حكومة ترودو إصلاحات متواضعة على النظام. وانتُقدت هذه التغييرات على أنها محاولة أخرى لنفض يديه من أي مسؤولية.
وكان التمييز صارخاً ومتسقاً لدرجة دفعت المحكمة الفيدرالية إلى إصدار قرار يفرض على أوتاوا التعويض على أسر السكان الأوائل التي قصّرت بحقها: 40 ألف دولار كندي لكل شخص تعرّض للتمييز. ولا تزال الحكومة الفيدرالية إلى اليوم رافضةً لهذا القرار وطاعنةً في صحته، ليبدو الأمر "وكأننا بصدد التعامل مع مجرم معاود يأبى أن يُحاسب"، ذكرت بلاكستوك.
وبعد كثير من الأخذ والرد في القرار، صدر حكم إدانة آخر بحق أوتاوا. في 29 سبتمبر (أيلول) الماضي، انحازت المحكمة الفيدرالية الكندية إلى جانب بلاكستوك مرة أخرى وأيدت التعويض - وهو حكم ربما يكلف الحكومة المليارات. وعلى رأي بلاكستوك، "لو كانوا فعلوا الأمور بالشكل الصحيح لما كان عليهم دفع التعويضات للضحايا".
وفي نص الحكم، شدد القاضي بول فافيل على أنه "ينبغي للأطراف أن تقرر ما إذا كانت ستبقى مكتوفة اليدين أو ستمضي قدماً في المصالحة".
بالنسبة إلى بلاكستوك، فهي تأمل في أن يسهم الحكم بدفع أوتاوا في اتجاه المصالحة، المصالحة التي ستضع حداً لمخلفات ما يزيد على قرن من الاستعمار، بين فقر وإهمال وسوء معاملة. "مفتاح الحل الوحيد أمامنا"، على حد تعبيرها.
وبالعودة إلى أداء ترودو في المناظرة الشهر الماضي، كان محبطاً للغاية. والأمور من بعده لم تتغير وثمة أدلة واضحة على أنها ستراوح مكانها حتى بعد فوز ترودو في الانتخابات الفيدرالية الأخيرة بفارق ضئيل. وأول هذه الأدلة: إعلان الحكومة الجديدة، بعد أربعة أيام من الانتخابات، وبعد ظهر يوم الجمعة تحديداً، عن خططها للتصدي لحكم آخر للمحكمة الفيدرالية - وهو الحكم الذي يقتضي من أوتاوا الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لرعاية الأطفال وتحسين وضعها، وهي معركة أخرى من معارك بلاكستوك القانونية.
"ما زال أطفالنا يتركون مجتمعاتهم كي يتعلموا وهم في عمر 13 سنة، فحكومة بلادهم بخيلة جداً إلى حد أنها تأبى بناء مدرسة ثانوية لهم"، شرحت بلاكستوك متنهدة.
والخميس التالي، 30 سبتمبر، صادف اليوم الوطني للحقيقة والمصالحة: عطلة وطنية كرّسها ترودو العام الماضي. وبدل أن يقبل دعوة لحضور احتفال يقام في موقع مدرسة داخلية سابقة، اكتُشفت فيها مقبرة جماعية مشتبه بها في أمة تكيملوبس، حلّق ترودو في طائرته فوق الموقع مباشرةً ليهبط بعدها في توفينو الخلابة في كولومبيا البريطانية. وأثارت الصور التي التُقطت له وهو يمارس رياضة ركوب الأمواج غضب الشعوب الأصلية في جميع أنحاء البلاد وأطاحت آمالهم، كونها "مهينة" وتبيّن عن "نقص عميق في التعاطف" على حد وصف بلاكستوك.
وفي إطار الهجوم المتواصل الذي يشنه الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة سينغ على الحزب الليبرالي بزعامة ترودو، "نتساءل ما إذا كان سيعود جاستن من الشاطئ جاهزاً للعمل مع مجتمعات السكان الأوائل أم أنه سينفق مزيداً من الملايين على المحامين الذين يقاتلون من أجل عرقلة سير العدالة؟ آن الأوان كي يفعل جاستن ترودو الصواب ويوقف حروبه القضائية على السكان الأوائل".
ومع ما تقدم ذكره، بلاكستوك غير متفائلة بشأن ترودو - "أتوقع منهم أن يستأنفوا الحكم الذي فزت به أخيراً. ولكنني سأكون لهم بالمرصاد."
اقرأ المزيد