رغم أننا لا نجد في الصحف والمجلات ولا في الإذاعة ولا التلفزيون أي حادث عن الفلسفة العربية في النقاشات العامة، فإن عبارة "عربي" -وللمفارقة- تعج بها كل هذه الفضاءات ولكن بشكل سيئ، وكأن الكلمة لا علاقة لها إلا بالهجرة والتهديد والعنف المواجه في الخارج، رغم أن اللغة العربية مثل اليونانية واللاتينية والألمانية هي أيضا لغة الفلسفة والفكر.
ولنبش هذا الموضوع، التقت مجلة لو نوفيل أوبسرفاتور (L’Obs) الفرنسية جون باتيست برونيه، الفيلسوف وأستاذ الفلسفة العربية بجامعة باريس الأولى، ليتحدث عن التحديات التي قد تثيرها الاجتماعات الشهرية المفتوحة لعامة الناس التي سينظمها معهد العالم العربي في باريس كل خميس، عبر دورة جديدة من الفلسفة مخصصة للفكر العربي.
___________
اقرأ أيضا
الأكاديمي المغربي محمد بوعزة: الناقد يحتاج إلى ثقافة أدبية وخبرة واسعة بالنصوص وحركة الثقافة الأدبية
كاتب فرنسي يسأل: لماذا اللغة العربية من المحرمات في فرنسا؟
مستقبل لسان الضاد خارج بلاده.. البوسنيون يضربون المثل في حب اللغة العربية
____________
وما يسعى له المعهد -حسب ماري ليمونيه التي أعدت الحوار- هو لفت النظر إلى أن هناك كما كبيرا من الفلسفة مكتوبا باللغة العربية، فهناك "فلسفة عربية هائلة"، حتى وإن استمرت الجامعات في تجاهلها بشكل عام، وتمكين المرء من الانفتاح عليها وقراءتها ومناقشتها، من أجل اكتشاف عبقريتها ووضعها في مكانها من تاريخ العقلانية المشترك، وذلك عبر سلسلة من المحاضرات تمنح فيها هذه المؤسسة الكبرى عامة الناس الفرصة للوصول إلى دورة مخصصة لهذا الفكر.
فكر عربي ذو نزعة إنسانية
ويقول برونيه إنه اختار لإحدى الجلسات عنوان "هل الفكر العربي نزعة إنسانية"؟، لأن مصطلح الإنسانية "هيومانيزم" مألوف ويشير إلى مفهوم معين للإنسان، يقدر مكانته في العالم وكرامته الفكرية والأخلاقية ومصيره ورعايته لرفاقه، لكنها كلمة تُستخدم تقليديا لوصف عصر النهضة في أوروبا اللاتينية، وعندما تطرح إشكالية إنسانية الفكر العربي في العصور الوسطى، فذلك من أجل الرد على هذا الدليل الكاذب الذي قد يقود المرء إلى الاعتقاد بأن الفلسفة السابقة باللغة العربية لم يكن لها هذا "الاهتمام" بالإنسان.
ويؤكد برونيه "فأنا بهذا الرد أقف في وجه ادعاءات مثل تلك التي كان يكررها شخص مثل الفيلسوف والمستشرق إرنست رينان في القرن الـ19 بأن الفكر العربي ليس فكرا للفرد ولا للشخصية، وأن كل شيء يعود إلى الله، ولا يمكن للإنسان سوى الحلول في الاتحاد الصوفي، وما أريده هو أن أنفي هذه التصورات، لأن النصوص تقول شيئا آخر".
فالفلسفة العربية -كما يرى هذا الفيلسوف- تحاول أن تؤسس لما يجعل إنسانية الجميع فوق الخصوصيات الفردية، وتظهر أن فائدة المعرفة تهم جميع الناس، لا فئة معينة، مراعية في الوقت نفسه أهمية الفردانية والضمير والمسؤولية، وبالتالي فإن المعرفة هي هم الجميع، ولكن كل شخص يأخذها فترة حياته على طريقته الخاصة، وفقا لخبرته وذاكرته وتاريخه، مما يتيح نظرة أخرى للفكر العربي وتطور الفلسفة على مر القرون.
أسئلة الفلسفة العربية الراهنة
وعند سؤاله عن أهم الأسئلة التي تطرحها الفلسفة العربية حتى اليوم؟ قال الفيلسوف الفرنسي إنها تلك المتعلقة بالفلسفة نفسها مع خصوصية أنها تطرح في سياق إسلامي وباللغة العربية، وحتى لو لم يتمحور كل شيء حول القرآن والتفسير واللغة، وبعيدا عن الإشارة إلى الإسلام والشريعة الإسلامية، فإن ما يسمى بالكلام أمر مهم، وعلم الكلام (أصول الدين) هو مجال مهم من مجالات الفلسفة الإسلامية.
وعليه فإن الأسئلة الكبرى للفلسفة العربية هي تلك التي يواجهها كل إنسان، من حيث الإحساس بالواقع وبنية الكون ووجود وطبيعة "الله" ووجود النظام السياسي الأفضل والحياة الكريمة والحرية والسعادة والسعي للعلم ونحو ذلك، ولذلك يجب أن نشعر بالجانب المزدوج، سواء بالنسبة للبعد الكوني للقضايا الذي يهم الجميع، أو بالنسبة لخصوصية اللحظة التاريخية واللغة والسياق الديني الذي يغير السؤال ويخرج مفاهيم جديدة.
ويقترح برونيه التفكير في الأشكال المختلفة للعلم كمسألة القيادة السياسية وتلك الخاصة بنشأة العالم وطبيعة الأخلاق والطبيعة، كما يرى أهمية مناقشة مفهوم الاستشراق من خلال البحث في "طرق المعرفة" في العالم العربي، بل وفحص ما ورثته الحداثة العربية من أسلافها العِظام من أمثال ابن رشد.
المصدر : لوبس