"البراني" رواية العلاقات الإنسانية المهدورة وتحية للموسيقى الموريتانية
يكابد الأدب الموريتاني كبير المشاق ليبلغ القارئ العربي، فبلاد المليون شاعر كما أطلق عليها رمزيا دولة ظلت بعيدة عن مراكز الأدب والكتابة والنشر لأسباب داخلية وأخرى خارجية، فموريتانيا التي نالت استقلالها عن فرنسا العام 1960 كمعظم الدول المستعمرة التي نالت استقلالها في تلك الفترة، اضطرت إلى انتظار العام 1981 لتشهد ظهور روايتها الأولى مع الشاعر والمناضل السياسي الموريتاني أحمدو ولد عبدالقادر الذي مثل عموماً الرواية التاريخية في السرد الموريتاني. وعُرف عن الرواية الموريتانية المتأخرة تطرقها لقضايا واقعية محلية ورصدها تحولات البلاد وأهلها وتوقفها عند شؤون الإنسان الموريتاني بهمومه وأزماته وشؤونه.
يكتشف القارئ العربي بإعجاب تيار الخيال العلمي في السرد الموريتاني في كتابات الصحافي الموريتاني أحمد ولد إسلم، فبعد مجموعته القصصية الأولى بعنوان "انتظار الماضي" (2015) وروايته "حياة مثقوبة" (2019)، يقدم ولد إسلم روايته الثانية "البراني" (دار الآداب، 2021) التي تربو على الـ 200 صفحة بقليل. والجدير بالذكر أن جامعة ييل الأميركية اختارت قبل أسابيع قصة "العبق الهارب" لولد إسلم لتدريسها في إطار مادة الأدب العربي المعاصر، بينما اختارت مجلة Words without borders"" ترجمة مقتطفات من رواية "البراني" وتقديمها ضمن ملف مخصص للأدب الموريتاني.
يجد ولد إسلم أن الانتقال من الترحال إلى المدينة أسهم في خلق فن الرواية وفن السرد في موريتانيا. وفي مقابلة أجريناها معه، يعتبر أحمد ولد إسلم أن تأخر ظهور الرواية في موريتانيا ارتبط بنجم العاصمة نواكشوط الذي لمع ابتداء من العام 1957، تاريخ اختيارها عاصمة موريتانيا، ومن بعده العام 1960 تاريخ الاستقلال عن فرنسا. وبينما أقام ما يناهز الثلاثمئة مواطن فقط في العاصمة في ما سبق، وقد كان معظم السكان من البدو الرحل، يعتبر ولد إسلم أن التمدن وازدياد عدد السكان وتقدم وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت يوماً بعد يوم في ازدهار حركة كتابة الرواية الموريتانية التي نراها تشق طريقها رويداً رويداً نحو الأوساط الأدبية. ويعتبر ولد إسلم أن دول المركز المتعارف عليها في تاريخ الأدب وهي دول المشرق العربي ومصر على رأسها، تصعب المهمة على الرواية الموريتانية، فالقارئ العربي ليس معتاداً قراءة الأدب الموريتاني، وبخاصة أن هذا الأخير يركز على قضايا مجتمعه وأهله وينحصر في محلية قد لا يلم بتفاصيلها غير الموريتانيين.
هدم العلاقات الإنسانية
في شيء من التحذير والإنذار والتوقع، يقدم أحمد ولد إسلم مدينة وجزيرة ومجتمعاً غارقاً في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والسرعة، يقدم بشراً خاضعين لحكم الآلة والعالم الرقمي والروبوت لدرجة أن الإنسان فقد قدرته على نسج علاقات بشرية قائمة على المودة والأخلاق والمشاعر. يتوقع ولد إسلم انهيار المجتمعات كما نعرفها اليوم، ليقول في موضع من السرد، "ما ترونه الآن من أحداث في مختلف أنحاء الكوكب هو نهاية للعالم الذي تعرفونه، وبداية سيطرة الذكاء الاصطناعي على الأرض". (ص: 181).
يقدم الكاتب لقارئه مجتمعاً خيالياً وجزيرة وهمية قائمة على الرأسمالية والعمل والتكنولوجيا، ثم يظهر فيروس آلي خطر لا سلطة لأحد عليه يغزو الهواتف والإنترنت والوقت ويوقف كل شيء، "وهذا المهاجم الغريب يبدو متحكماً في كل شيء ولا أحد يستطيع إيقافه حتى الآن". (ص: 176). هكذا يصف ولد إسلم هذا الفيروس الخارجي أو "البراني" الذي يجعل الجميع يفقدون السيطرة ويفقدون الثقة بالآلة وبالذكاء الاصطناعي الذي شكل جوهر حياتهم لزمن طويل.
ولا يكتفي إنسان "فيوتشر سيتي" أو مدينة المستقبل "Future city" بالخضوع لسيطرة الآلات والذكاء الاصطناعي والعالم الرقمي، بل يتحول هو نفسه إلى آلة تعشق المال وتعمل بحسب نظام تكنولوجي دقيق لا خلل فيه ولا مساحة لمن يبطئ أو يتأخر. يقول الكاتب، "لم يقف الجشع الرأسمالي عند استعباد الإنسان بتحويله إلى آلة تعمل لتعيش، وتعيش لتعمل، بل يتجاوزه اليوم إلى اعتبار حياته مجرد عملة رقمية لتكريس مزيد من الثروة" (ص: 19).
تقع الكارثة عندما يفقد البشر السيطرة على الآلة التي يصيبها فيروس مدمر يسرب الأسرار ويفضح العيوب ويجعل جميع سكان المدينة لعباً بين يديه، "تبين أن جميع سكان الجزيرة لكل واحد منهم سر يخفيه، ومستعد لبذل نفسه قبل سماحه بالكشف عنه." (ص: 130). وتروح المشكلات تتوالى تدب الفوضى في جميع الحقول والمجالات، يتشاجر الناس فيما بينهم، تفك أواصر عائلات وأسر، ويكتشف الإنسان فداحة الخطأ الذي أوقع نفسه فيه.
الموسيقى والزمن
يتجلى واضحاً لقارئ رواية "البراني" تعمق الكاتب في الموسيقى الموريتانية وعشقه لها، فأسماء العلم المتعلقة بالروبوت والتكنولوجيا والفيروس والذكاء الاصطناعي والشخصيات لها معان في سلم الموسيقى الموريتانية، "أزوان" نفسها وهي لغة إلكترونية اخترعها البطل لنظام آلي تعني باللهجة الحسانية الموريتانية الموسيقى (ص: 101)، عدا عن أن الموسيقى والشاي يرافقان بطل الرواية مختور ولد احويبيب في مختلف مراحل السرد، ويتبين أنها من أساسيات حياة الإنسان الموريتاني وعاداته اليومية. إضافة إلى كل ما سبق يتعرف القارئ إلى أسماء لامعة في عالم الغناء الموريتاني كالفنان الشيخ سيد أحمد البكاي ولد عوه والفنانة ديمي بنت آبه وغيرهما.
ويبقى العنوان نفسه "البراني" مفتاحاً موسيقياً يكتشف القارئ معانيه مع تقدم السرد، فالبراني الذي قد يعني الدخيل أو الوافد من الخارج أو الغريب أو حتى المهمش، له كذلك معنى في مقابل في عالم الموسيقى ويعني مقاماً موسيقياً، فتترسخ الموسيقى في صلب النص ومعانيه وتحول رسم الغلاف الذي يمثل يد روبوت وآلة موسيقية معاً، إلى مرآة للمزيج الموجود في السرد، مزيج بين الموسيقى والآلة.
"البراني" للكاتب أحمد ولد إسلم رواية موريتانية شيقة متماسكة غير متوقعة، تجسد سيطرة الآلة على الحياة البشرية مع لمسة موسيقى موريتانية شعبية رقيقة، تجسد سيطرة التكنولوجيا والروبوتات والذكاء الاصطناعي من دون منازع لتضع القارئ أمام فيروس رقمي يعرف كل سر ويفضح كل حقيقة، فهل من سبيل إلى الهرب من قبضته ومن قبضة عالم الآلة؟
يبقى الزمن هو اللغز الأول والأخير ومحور الكلام والقضية، هاجس الزمن والوقت والسرعة، هاجس العمل والمال والشراء. يبقى الزمن اللغز الذي يتوقف على حين غرة في صفحات أحمد ولد إسلم الأولى ويرمي البشر في حيرة لا تضارعها حيرة، "كان سؤاله الأول هو ما الزمن؟"