أمستردام – يعود متحف "راكيس" (Rijksmuseum) -الذي يعد الأكبر في هولندا وأحد أشهر متاحف العالم- إلى حقبة مخزية من تاريخ البلد الأوروبي، عندما شاركت هولندا في تجارة العبيد واغتنت منها، ويبين كيف نقلت أعدادا من هؤلاء العبيد إلى مستعمراتها التي توزعت في عدة أماكن في العالم.
ويتناول المعرض الحقبة التاريخية التي تبدأ من القرن الـ17 وحتى القرن الـ19، وتغطي أعماله موضوعة العبودية في أفريقيا وهولندا وجزيرة سورينام، ويضم أعمالا من البرازيل.
ويعد المعرض المتواصل حتى أغسطس/آب المقبل، الأكبر على صعيد هولندا، بالنسبة لمحتوياته والجهد المبذول فيه، إذ استغرق العمل عليه أكثر من 4 أعوام، وتم جلب مقتنيات المعرض من عدة دول حول العالم، بالإضافة إلى الأعمال الفنية عن "التيمة" نفسها الموجودة في هولندا.
أموال وعذابات كبيرة
في قاعات بإضاءة خافتة ومرايا تقسم الغرف الواسعة إلى مساحات عديدة، تتوزع اللقى التاريخية والأعمال الفنية لمعرض العبودية في المتحف.
تتنوع مقتنيات المعرض، من لوحات تعود إلى القرنين الـ17 والـ18 إلى وثائق من تلك الحقب الزمنية التي توثق تجارة العبيد التي كانت شائعة وقتها، والدور الهولندي في تجارة العبيد وحيازتهم، وإرسالهم إلى الجزر التي تسيطر عليها.
ومن الأعمال الصادمة كثيرا، لوح خشبي عثر عليه في قعر البحر في الشاطئ القريب من جنوب هولندا، وكان يستعمل في سفن نقل العبيد لمعاقبة العبيد المتمردين، حيث يتم وضع أرجل المتمردين في فتحات في هذه اللوح لتمنع حركتهم.
لوح خشبي عثر عليه في قعر البحر استخدم لمعاقبة العبيد المتمردين (الجزيرة)
ومن اللقى التاريخية الثمينة التي نجح المعرض في الحصول عليها، معصم يد كان يرتديه الناس الذين أُجبروا على العبودية، وبيعوا إلى عوائل أوروبية غنية، هذا المعصم كان العلامة على المرتبة الاجتماعية، إذ يبين أن حامله ينتمي إلى طبقة العبيد.
وجمع المعرض لوحات من قرون النهضة الأوروبية، التي كانت تُظهر عبيدا سودا في الغالب وهم يخدمون أسيادهم الأوروبيين، في سعي من الفنانين حينها لرسم واقع العوائل الغنية التي كانوا يرسموها، حيث كان العبيد يشكلون جزءا من هذا الواقع.
واللافت أن بعض الأعمال الفنية في المعرض لا تحمل توقيع الفنان التي رسمها، ربما بسبب الخوف وقتها من العقاب، أو يمكن أن يكون صانعوها من العبيد أنفسهم، الذين كانوا لا يفصحون عن اهتماماتهم الفنية خشية العقاب.
ومن اللوحات التي لا تحمل توقيع، لوحة لعبدين يحرثان حقلا واسعا، ويرتديان القليل من الثياب، فيما تبدو الشمس حارة في الأفق، حيث بدا جمال الحقل على النقيض من قسوة الحياة على العبدين.
تظهر اللوحة التناقض بين جمال الخلفية وقسوة الحياة على العبدين (الجزيرة)
وبالإضافة إلى الأعمال الفنية التي أظهر بعضها وجود عبيد بالصدفة، عرض المعرض الهولندي لقى من صناعة رجال ونساء أجبروا على العبودية، وحفظت أعمالهم لليوم.
ومن الأعمال المعاصرة القليلة التي عرضها المعرض، عمل فني حديث للفنان روموالد حزوم من جمهورية بنين، الذي أراد التذكير بالرحلات البحرية التي قطعها العبيد من أفريقيا إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية، فاستعاض عن البشر بأجزاء من قناني مياه مستعملة رصفت جنبا إلى جنب في إشارة إلى اكتظاظ تلك السفن.
جدال شعبي عن تركة العبودية
ويأتي المعرض وسط جدال متواصل عن قضية العنصرية ودور هولندا فيه، كانت من نتائجه الأخيرة قبل أيام، اعتذار رئيسة بلدية أمستردام فيمكة هيلسما عن دور المدينة في تجارة العبيد، حيث كانت المدينة إحدى المراكز التجارية المهمة التي انتفعت من تجارة العبيد.
وقبل اعتذار رئيسة بلدية أمستردام، أعلن في هولندا أن العربة الملكية الهولندية الذهبية لن تعود لخدمة العائلة المالكة، وبعد انتقادات وجهت إلى العربة بسبب رسم عليها ويظهر فيه رجال ونساء سود البشرية يعتقد أنهم عبيد، يقدمون البضائع لأشخاص بدوا وكأنهم من طبقة الأسياد البيض.
وستعرض العربة التي لم تستخدم منذ عام 2015 في أحد متاحف العاصمة الهولندية أمستردام.
رجل عيد الميلاد وعبيده
وظهر نقاش العنصرية في هولندا إلى السطح بسبب عيد شعبي قديم للأطفال يسمى "سنتكلاس"، الذي يتضمن تنقلات لرجل عيد الميلاد وبمعيته مساعديه الذين يشبهون العبيد حيث تم تغيير لون بشرتهم عبر المكياج إلى اللون الأسود، إذ بدأت الكثير من الشخصيات العامة، وبعضها من أصول أفريقية بإظهار غضبها من صورة العبيد في العيد الشعبي ودعوا إلى وقف هذا التقليد.
وعلى الرغم أن نقاش العيد الشعبي لم يتوقف إلى اليوم، وما زالت طقوس العيد تمارس كما هي عند بعض الهولنديين، إلا أن الكثير من الهولنديين استجابوا للنقد، وغيروا مكياج العبيد في العيد من الأسود إلى ألوان أخرى.
مشهد يضم مقتنيات ضمن أكبر معرض فني وتاريخي عن العبودية في هولندا (الجزيرة)
صدى الأحداث الخارجية
وتأثرت هولندا بموجة الاحتجاجات التي شهدها العالم السنة الماضية على خلفية مقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد، فخرجت تظاهرات كبيرة لعدة أيام في هولندا ضد العنصرية، وذكّرت هذه التظاهرات بصور من العنصرية تمارس حتى اليوم في الحياة العامة في هولندا.
كما أعاد مقتل جورج فلويد قضية العنصرية إلى النقاش العام في هولندا، فدعت شخصيات عامة ومؤسسات إلى إعادة تقييم التاريخ الهولندي، وإدانة شخصيات ارتبطت بتجارة العبيد، وإزالة تماثيل لهم من الحياة العامة.
كما بدأت المطالب من الحكومة الهولندية بتقديم اعتذار رسمي على دورها في العبودية، على غرار ذلك الذي قدمته لليهود الهولنديين على خلفية احتجازهم ومقتلهم في الحرب العالمية الثانية، والذي تم أحيانا بسبب مساعدة الحكومة الهولندية حينذاك.
كما سينطلق قريبا بث تلفزيوني لمؤسسة إعلامية أنشئت حديثا تحاول أن تتصدى لقضايا الهولنديين من أصول غير بيضاء.
المصدر : الجزيرة
اقرأ أيضا
الإمبراطورية الرومانية "غير البيضاء".. هل كانت روما مدينة شرق أوسطية؟
درب الدموع والآلام.. مجزرة الأميركيين السود في "وول ستريت الأسود"
مخطوطة بالكونغرس تعود للقرن الـ19.. قصة مسلم تنسف سردية العبيد بأميركا