الدهماء ريم
كاتبة موريتانية
هذا ما يَعْنِ جيل تيكْ توكْ الجَميل.
لمعرفة من تكون أم كلثوم، انقر على أيّ مُحرك للبحث يغنيك عن السؤال.
لمعرفة من كانت بالنسبة لي، سأقول..، وكهذا كانت لجيلي الثقيل.
أوتيَّت أم كلثوم سُلطان التَّمكن بالقُدرة على تأدية كل نَغَم بصوت قويٍّ وحَسَّاس، وهو جمع نَقيضين اجتمعا فيها وحدها من بين المعروفين، فقد امتلكت بإعجاز ربَّاني مَداءات صوت الرّجل والمرأة مُدمجة وبنسبة نقاء خياليَّة، وهي معجزة بمقاييس الرياضيات، تعلَّمت من التجويد فصاحة النُّطق،لا تلثغ الكلمات، وتُلقي الشِّعر غناءً صافيَّ المَوْرِدِ،.. لم يُكتشف نطاق صوتها في غيرها حتى الآن،.. طول نَفَسٍ، وتحكّم مُعجز، يبتعد ويقترب، ويشتعل ويهدأ..... هذا عنها.
أمَّا عنِّي وعنها... فقد التقيتُ صوتها وأنا غرّة شمَّرت توّها للحياة، وتيقَّنتُ من اللقاء الأول أنِّي لن أنجُوَّ منها،.. التمستُ أن تبقى قربي للأبد، .. فتكرَّمت وقَبِلت، وتنقَّلت بأهوائي طولاً وعرضًا، بهجة وشجنًا بين خِصبٍ وجدب وجذب.
شجَّعتني على الاتصال بي، تبادلنا الكثير من الأسرار في هدأة الليل، بكدرها وصفوها، أُنصِتُ في حَضْرَتها بكُليِّ، ومعها اعتقدْتُ مرَّاتٍ أن الوقت سيتوقف من أجلي ...
سنوات، وأنا أرتحل على صوتها كل مساء من سَماء قَمراء لسماء،.. وكم خشيتُ على قلبي صَعَقات تردّداتها الاعجازية،.. حين تمدّ عنقها بقامة كالنُّصب، في فستانٍ أنيق اللقطات، وتقذفُ في وجهِ كيَّاني: "يا قلبي آه"،.. لقد حَمَلَتْني على ابتلاع كَمٍّ من الآهْ لا يعلمه إلا الله،..
كُلّما انكسرتُ أو ضاق صدري بسرِّي، استثرتُ احساسها،.. ارسلتُ خلفها بالي يستطربُ استجمامًا، وأتركُ لها الخيَّار في أن تُسعدني أو تُحزِن، أو تتولَّى البوح عنِّي لنفسي فتُجرِّدني مِنِّي دون جَفوة.
تدرَّجتُ في اكتشافها، أتتبَّعها، تَجذبي من تلابيب قلبي،.. وإلاَّ كيف استطاعت أنْ تُكرِّر على مسامعي المَلُولَة، نفس الجملة عشر مرَّات، فتأخُذني معها في استمتاع تَصاعديٍّ دون ضجر، من لون ثقيل حَرَّاق، لا علاقة له بتراثي الغنائي، وغريب على ثقافتي الشَّعبية...لقد روَّضت وجداني لصالحها، فضمَّتني لرصيدها الثَّابت، وإلى اليوم..
كنتُ مِنَ الكانزين الكبار لأشرطتها، ومولعة لحدِّ الجنون بسُولوهات أعضاء جوقها (سولو:العزف المنفرد)، .. فعلى امتداد ساعات بسطتُ صدري متَّكأً لمُسجِّلي الصَّغير، أعيدُ وأعيدُ سولو لأحمد الحفناوي على الكَمان، أو محمد العربي على الرِّق، أو لأوتار عُمَر خُرْشيد على القيثارة، أو سولو قانون لمحمد عبده صالح، أو عود القصبجي، أو سيِّد سالم في سولو النَّاي،.. هل تعرفون سيِّد سالم؟، وأيّ نَفَسٍ يَبتدِع؟، النَّاي أقدم وأقدس الآلات البدائية، صفير شجن لذيذ، اسمعوه في "أقبل الليل"، وسيُقبل عليكم حُزن الانشراح..
كان الإدمان على السُّولوهات وسبر أغوارها، تسريَّة عن "بِنْت ناسْ"، تُحَدُّ حركتها مساءً لحدودِ صفر مسافة،.. فيُزاحمني الليل الفارغ على ليلي الطَّروب، يُقصِّر ويتعجَّل، يتعدَّى على السَّاعات، يختزلها بمكرٍ في دقائق.
قَيَّض الله لأم كلثوم باقة من حُرَّاس الجمال، من عباقرة الكَلمة،.. والشِّعر أجمل وأنبل فنون الإبداع إطلاقًا،.. وغَنِمت مُلحِّنينَ عباقرة، أحسنوا حمل الكلمة على النَّغم، فكانت طفرة جمال وطفرة عواطف.. كانت باختصار أخْلَدَ صوتٍ وصِيتٍ في وجدانِ العرب في قرنِ حياتها، نَسختْ ما قبلها وتَلمَذَت عليها تِلْوها.
كُلَّما استمعتُ اليوم لمقطع منها، تُطاردني الرَّغبة في إعادة بَعْثِ الحالة الذِّهنية لِلَحظة السَّماع الأولى، وتفاصيل الأحداث.. استرجعُ حتَّى ألوان الأشرطة،.. ولذلك لا أتساقى الطَّرب وإياها بحضورِ ثالثٍ أبدًا.
جذبتني شخصية أم كلثوم،.. فالمرأة تملك تقديرا عاليًّا لذاتها كسيدة مُجتمع قويَّة وساميَّة، رفعت نفسها استحقاقًا لِلَقب "السِّتْ"، وهو لقب اجتماعي غير فنِّيّ، انتزعَتهُ بسلوك راقٍ، وبحالة حشمة كانت مَنْقبة فريدة لها في وسط الفن.. قناعتي أنَّ الإبداع المحمول على جيناتِ شخصيةٍ ضَعيفة، لا يملك حصانة من التَّسافلُ والاستغلال، ومصيره أن يَتشوَّهَ مع الزَّمن ويَموت.
مع الزَّمن يتحول الشَّغف السَّاخن لحنين هادئ يَضبط المسارات الحسِّية، فبعد ان تعدَّيتُ معها قنطرة الابهار، واقتحم سمعي وإياها عقبة الطرب مُتجاوزا بسلام،.. مِلتُ لأغاني أواخر عُمْرها،.. فلديَّ إحساس بارتخاء حبالها قدرًا مَا، في تلك المساحة الزمنية، ارتخاء نُضج مُريح، قَلَبَ صوتها إلى ضخمٍ مُرتفع دون ضَعف من عوارض الأيَّام ، لأنَّ الخبرة تحرسه..
أذوب في آخر تسجيل مُعادٍ لمديحية "سَلُوا قلبي"، وهي من الشَّوقيات الوجدانية، تقليدية كلمة ولحنًا، وشهرتها "أبا الزهراء"، وكان التسجيل سنة 67م، وقد تقدَّم بها العمر وأُنْهِكت بمرضٍ شَابَهُ هرمٌ، .. تُعاسر "الرَّدات" (الجوابات)، تُعاند الاستسلام للزَّمن، ومع ذلك امتعت حَدَّ القَتل!
أعودُ لهذا الهرم الطربي كُلّ حين، أُعَرِّضُ نفسي لسماعِها، لأطمئنَّ على صلاحية أحاسيسي الجميلة، عَلَّها ما زالت تعملُ في زحام القبح هذا ،.. أو كلَّما ازورَّت عنِّي في زحمة ابتلاءات ضمائر مُرقَّعة، وافتراءات وجوه مُحفَّرة، عوجاء، تتخبَّط ُ في الدُّنيا خبطَ عشواء! ..اعلموا أنَّ القلوب تمرض من القُبح دون عوارض بيِّنة، ... فافرطوا في استهلاك الجمال، أضمنُ لكم الشِّفاء.. خصوصا أنَّ الافراط لا يُبليه.
أهديكم مقطوعة من "سَلُوا قلبي" على الرَّابط التالي، طابَ يومكم.