المصدر : الجزيرة
في يوم الرابع من أغسطس/آب 2014، لاح الظلام في مصر فجأة، وغرقت البلاد بمَن فيها في عتمة ممتدة رافقت يومهم الثقيل إلى الليل، ذلك البلد الذي لا تهدأ أنواره أبدا، تعطَّل فيه كل ما له صلة بالطاقة؛ فتوقَّفت حركة المترو، وسكن ضجيج المصانع، وأُغلقت أبواب المخابز، وتضرَّرت شبكات الاتصالات. انقطعت الكهرباء عن الجميع، ولم يرفق حر الصيف بأحد، وبينما بحث الجميع عن تفسير لصوت السلطة الغائب، لم تُقدِّم الحكومة سوى بيان في صباح اليوم التالي يقول إن مقدار العجز المتوقَّع في إنتاج الكهرباء خلال الفترة المقبلة يتجاوز 3200 ميجاوات يوميا، ومن ثمَّ فإن الظلام الذي عايشه المصريون خلال ليلتهم الماضية لن يكون الأخير.
لا يسع مَن حضر تلك الأيام أن ينساها بسهولة، لكن الليلة ليست دوما أشبه بالبارحة، فمصر الأمس التي صارعت الظلام حقَّقت اكتفاءها الذاتي من الكهرباء في غضون ستة أعوام، بل وتدخُل لتوِّها صراعا مُحتدِما على تصدير الطاقة. وبينما تُعِدُّ القاهرة نفسها لتصير مركزا إقليميا لتصدير الكهرباء إلى أفريقيا وأوروبا، يواجهها مُنافس شرس في السوق الأفريقي المُتعطِّش للكهرباء، وكما هو مُتوقَّع فإن هذا المنافس ليس سوى إثيوبيا، وبواسطة مشروع سد النهضة نفسه الذي يستهدف توليد ستة آلاف ميجاوات من الطاقة الكهربائية سنويا. ليس الماء وحده إذن هو الذي يضع علاقات البلدين على مسار تنافس وصراع جيوسياسي، بل وملف الطاقة الذي يبدو أن أبعاده الكاملة لم تتكشَّف بعد.
يُشكِّل الاستثمار في قطاع الكهرباء أحد العوامل الرئيسة التي انعكست إيجابا بتوديع مصر للظلام. وبحسب بيانات رسمية صادرة عن وزارة الكهرباء المصرية، بلغ حجم الاستثمار السنوي في شبكات توزيع الكهرباء قبل عام 2014 ما يقرب من مليار و100 مليون جنيه (70.1 مليون دولار)، لكن أيام الظلام المتكررة آنذاك دفعت الحكومة لرفع الاستثمارات فى تطوير شبكات التوزيع وصولا إلى 11 مليار جنيه (701 مليون دولار)، وهو ما يُمثِّل 11 ضعف قيمة الاستثمارات بين عامَيْ 2003-2014. وتقول الحكومة إن خطة تطوير قطاع الكهرباء كلَّفتها حتى آخر العام الماضي 2020 نحو 515 مليار جنيه (32.8 مليار دولار)، فبدلا من الاكتفاء بتنفيذ الخطة العاجلة التي قضت بإضافة 13 ألف ميجاوات لمنع انقطاع التيار عام 2014، واصلت مصر إنتاج الكهرباء حتى أصبحت تمتلك حاليا 17 ألف ميجاوات من الاحتياطي يوميا، وذلك بعد تحقيقها الاكتفاء الذاتي من الكهرباء منذ عام 2015.
تكشف البيانات الرسمية الأخيرة في التقرير السنوي للشركة القابضة لكهرباء مصر عام 2019 أن إجمالى إنتاج الطاقة الكهربائية بلغ نحو 58.35 ألف ميجاوات، بينما يبلغ حجم الاستهلاك الحالي نحو 30 ألف ميجاوات فقط في أوقات الذروة، ما يعني وجود فائض من الطاقة المولدة يزداد اتساعا مع انخفاض الاستهلاك في الشتاء. هذا التحوُّل السريع في مسار الطاقة بمصر من دولة تواجه عجزا يوميا إلى دولة تمتلك فائضا محا تاريخ الظلام في سنوات معدودات، ويدفع مصر الآن نحو استغلال تموضعها الجغرافي المركزي، والبدء في إعداد خطة طموحة لتصبح مركزا إقليميا لتصدير الكهرباء باستثمارات تبلغ تريليون جنيه، وهي رؤية تثق القاهرة بنجاحها كونها تتوسَّط دولا عديدة مُتعطِّشة للطاقة، وأهم تلك الدول بالطبع السودان، المُقبِل على تحوُّل سياسي واقتصادي قد يزيد احتياجاته من الطاقة، في وقت تسعى فيه القاهرة لتعزيز روابطها به على المستويات كافة، ومنها البنية التحتية. (1)
الخطة المصرية لوضع قطاع الكهرباء على طريق التصدير باتت تحظى بثقة أكبر لدى الجهات الدولية المُتشكِّكة سابقا في أداء الاقتصاد المصري، ومنها البنك الدولي الذي ساهم لاحقا في تمويل مشروعات بالقطاع. على سبيل المثال، أعلنت شركة الأبحاث "فيتش سولوشنز"، التابعة لوكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، أن مصر ستكون واحدة من أسرع أسواق الطاقة المتجددة غير الكهرومائية نموا في المنطقة خلال العقد الممتد حتى 2031. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تعاقدت مصر أثناء زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لألمانيا عام 2015 مع شركة "سيمنز" الألمانية لتشييد محطات إنتاج طاقة بتكلفة ستة مليارات يورو (7 مليارات دولار). كما تهدف لإنشاء ثلاث محطات توليد عملاقة تعمل بالغاز في العاصمة الإدارية والبرلس وبني سويف، تُعَدُّ الأضخم في الشرق الأوسط حتى الآن، بطاقة إنتاجية تبلغ 14400 ميجاوات. وبحسب صحيفة "أخبار اليوم" الحكومية، ستُوفِّر المحطات مليارا و300 مليون جنيه (83 مليون دولار) نتيجة توفير استهلاك الوقود، كما ستُغطِّي 50% من الاحتياجات المحلية. (2)
تسعى الحكومة المصرية أيضا للاستثمار في الطاقة النظيفة، الأرخص والأوفر على المدى البعيد، التي تُغطِّي حاليا 3% فقط من احتياجات البلاد، حيث شيَّدت واحدة من أكبر محطات توليد الكهرباء بواسطة الرياح عالميا في منطقة البحر الأحمر بتكلفة 12 مليار جنيه (673 مليون دولار) وبطاقة إنتاجية تبلغ 580 ميجاوات، كما حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي وعدة مؤسسات دولية بقيمة 653 مليون دولار، لتشييد محطة طاقة شمسية عملاقة بحديقة بنبان في أسوان تناظر مساحتها خمسين ملعبا لكرة قدم، وبقدرة إنتاجية تصل إلى 1465 ميجاوات، ويمكن أن ترتفع إلى 1800، أي ما يعادل نحو 90% مما ينتجه السد العالي. وفي نهاية المطاف، تسعى مصر إلى تلبية 40% من احتياجاتها من الطاقة عبر مصادر مُتجدِّدة بحلول عام 2035.
محطة الطاقة الشمسية العملاقة بحديقة بنبان في أسوان
ورغم نجاح الحكومة المصرية في مضاعفة قدرات قطاع الكهرباء باستثمارات ضخمة خلال فترة وجيزة؛ فإن هذه القدرات الإضافية لم تتسبَّب في تخفيض أسعار الكهرباء للمستهلكين، وبدلا من ذلك لا تزال أسعار الطاقة ترتفع باطِّراد. ففي يونيو/حزيران العام الماضي، قرَّرت الحكومة المصرية رفع أسعار الكهرباء بنِسَب تراوحت بين 16-30% ضمن خطة لرفع الدعم نهائيا، مع استمرار فرض زيادات الأسعار حتى عام 2025. واللافت أن الزيادة تزامنت مع تخمة في الفائض الذي بات يُمثِّل نحو نصف الإنتاج، بينما النسبة المُتعارَف عليها في أي دولة لاحتياطي الكهرباء لا تتجاوز 15%.
يقول نقيب الصحفيين الأسبق "ممدوح الولي"، الذي صدرت له خمسة كتب تناولت الاقتصاد المصري، إن الحكومة المصرية لم تُخطِّط ابتداء للتعامل مع الفائض، الذي وصل إلى ضِعف ما تحتاج إليه البلاد، قبل التوسُّع في الإنتاج، حيث بلغ حجم ما صدَّرته مصر من الكهرباء نسبة 0.003% من إجمالي الكهرباء المولَّدة محليا لعام 2019. ويُفسِّر "الولي" أن الزيادات المتتالية في أسعار الكهرباء التي أقرَّتها الحكومة ساهمت في تقليل الاستهلاك المنزلي الذي يُعَدُّ الرافد الأهم للاستهلاك في الوقت الراهن؛ ما نتج عنه زيادة في الفائض، وقلة في العائدات المالية التي تحتاج إليها الحكومة لتمويل مشاريع لم تحصد نتائجها بعد، فضلا عن كونها لم تُسدِّد باقي حصص الديون المقرَّرة عليها حتى الآن للشركات الأجنبية المُنفِّذة، وللمانحين الدوليين.
وللتغلُّب على أزمة الفائض، تبنَّت الحكومة رؤية تجعل من مصر مركزا إقليميا للطاقة عبر تصدير الكهرباء والحصول على أكبر عائد ممكن يحل لها مشكلة "إهدار الموارد" غير المستغلَّة حتى اللحظة. ولذا عمدت إلى الإعلان عن تصدير الكهرباء للخارج بسعر مدعوم، وسبق وأعلن المدير التنفيذي لصندوق مصر السيادي لوكالة "بلومبِرغ" الأميركية أن الصندوق يُجري مفاوضات مع الحكومة المصرية حاليا بُغية بيع الكهرباء إلى دول أوروبية وأفريقية بسعر بلغ 2.4 سنت أميركي (نحو 40 قرشا مصريا) لكل كيلووات/ساعة.
وفقا لتصريحات أدلى بها وزير الكهرباء المصري لعدة صحف محلية، تُصدِّر مصر حاليا 200 ميجاوات إلى ليبيا، و200 ميجاوات إلى الأردن، و80 ميجاوات إلى السودان، ومن المُقرَّر أن يرتفع الرقم الأخير إلى 300 مغاوات بعد تنفيذ المرحلة الثانية من مشروع الربط الكهربائي بين القاهرة والخرطوم في أكتوبر/تشرين الأول 2022؛ ما يعني أن مصر تصدر الآن 500 ميجاوات تُمثِّل أقل من 1% من إجمالي إنتاجية الكهرباء لديها. على صعيد آخر، لا يوجد بعد ربط كهربائي بين مصر والدول الثلاث التي تعاقدت معها لتصدير الطاقة، وهي السعودية وقبرص واليونان، ولن تنطلق المشروعات الأخيرة قبل عام 2023 بعد أن تأخَّرت أكثر من مرة. تكشف الأرقام إذن حجم الخسائر التي يمكن أن تتكبَّدها مصر بسبب فائض الكهرباء إن لم تنجح في تنفيذ مشروع طموح للتصدير؛ ما يُفسِّر سعيها للدخول إلى السوق الأفريقية المُتعطِّشة للكهرباء، واستمرار الحكومة في خطتها لرفع الدعم تدريجيا عن المستهلك المصري.
وزير الكهرباء المصري "محمد شاكر"
في هذا السياق، تُشير دراسة نشرتها الوكالة الدولية للطاقة أواخر عام 2019 إلى أن 580 مليون شخص في أفريقيا يعيشون في الظلام؛ إما لأنهم في مناطق لا تخدمها شبكة كهربائية، وإما لأنهم غير متصلين بشبكة موجودة بالفعل. ويُمثِّل ذلك الرقم نحو 44% من سكان القارة الأفريقية البالغ عددهم مليار و300 مليون يعيشون في 54 دولة. ولأن تكاليف ربط شبكات الكهرباء تعوق الوصول المصري إلى قلب القارة، وضعت الحكومة خطة لاستهداف شرق أفريقيا والدول المجاورة لها، وهي المنطقة نفسها التي تستهدفها إثيوبيا للمفارقة بخطة شبيهة عبر سد النهضة. (3) (4)
وضعت إثيوبيا حجر أساس بناء "سد النهضة" عام 2011 ليكون أكبر مشروع قومي لإنتاج الكهرباء في أفريقيا بقدرة نحو 6450 ميجاوات. وسيُلبِّي ذلك احتياجاتها من الطاقة داخليا، بالإضافة إلى تحويلها إلى مركز إقليمي للطاقة النظيفة بهدف تصديرها لمنظمة "تجمع الطاقة في شرق أفريقيا" المكوَّن من سبع دول: مصر والسودان وإثيوبيا وكينيا ورواندا وبوروندي والكونغو. وتتمتَّع أديس أبابا بمزية وقوع 80% من منابع النيل فوق المرتفعات الإثيوبية لديها، إلى جانب وقوعها جغرافيًّا في قلب تلك المنطقة.
طبقا لبيانات رسمية، تبلغ الطاقة الكهرومائية الموجودة طبيعيا في إثيوبيا نحو 45 ألف ميجاوات، وهي قابلة للاستغلال عبر تنفيذ مشاريع عدة على أنهارها البالغ عددها 11 نهرا، لكن أديس أبابا تواجه صعوبة في تمويل مشاريع طموحة بحجم سد النهضة نفسه الذي كلَّفها استثمارا ضخما لتنفيذه. ونتيجة لذلك، شرعت أديس أبابا في بناء عدة سدود أصغر بغية توليد الطاقة، وتُشير وثيقة استخباراتية لمركز "ستراتفور" الأميركي للبحوث الإستراتيجية إلى أن إثيوبيا تُخطِّط لبناء 40 سدا على تلك الأنهار، مدفوعة في ذلك هي الأخرى بالرغبة في التخلُّص من شبح الظلام الذي يُخيِّم على 70% من منازلها، مُضافة إلى طموحات الإصلاح الاقتصادي والتنمية التي تعهَّد بها رئيس الوزراء الحالي، آبي أحمد. والأكثر من ذلك، تُخطِّط إثيوبيا فعليا للاعتماد على صادراتها من الطاقة بوصفها مصدرا رئيسيا للدخل، وهي تُصدِّر حاليا 200 ميجاوات إلى السودان، ونحو 100 ميجاوات إلى جيبوتي مرشَّحة للزيادة إلى 400 ميجاوات، كما وقَّعت اتفاقا مع كينيا ورواندا أيضا لبدء تصدير 400 ميجاوات إلى كلٍّ منهما.
سد النهضة الإثيوبي
بالتزامن، تخوض أديس أبابا محادثات لتزويد اليمن بنحو 900 ميجاوات عبر كابل بحري. وتتوقَّع الحكومة الإثيوبية أن تجني مليارَيْ دولار سنويا جراء تصدير فائض كهرباء السد للدول المجاورة، وفي مقدمتها السودان الذي قد يُشكِّل ساحة للتنافس بين مصر وإثيوبيا في ذلك المجال، إذ تعاني الخرطوم عجزا سنويا من الطاقة يبلغ 3800 ميجاوات تُمثِّل 52% من احتياجات البلاد.
وفيما تقول مصر إنها على استعداد لبيع الكهرباء للدول الأفريقية بسعر سبعة سنت/لكل كيلووات، يؤكد رئيس التخطيط لقطاع الشركات بشركة الكهرباء الحكومية الإثيوبية في تصريح لـ "رويترز" أن أديس أبابا على استعداد للبيع بسعر ستة سنتات. ليس من المستبعَد إذن أن يدخل الطرفان في حرب أسعار لتقديم مزايا تنافسية لحيازة نصيب أكبر من السوق الأفريقية، إذ تستعد إثيوبيا لإنتاج طاقة تتجاوز احتياجاتها بأكثر من 50% عقب اكتمال عمل سد النهضة، وهي نسبة الفائض نفسها التي تُحقِّقها مصر حاليا.
في مقابل التحرُّكات الإثيوبية لتمويل عمليات الربط الكهربائي في شرق أفريقيا، تُكثِّف القاهرة حضورها هي الأخرى للحفاظ على نفوذها في دول المنطقة، إذ تبني مصر حاليا سد "نيريري" في تنزانيا بتكلفة 2.9 مليار دولار، وتُنفِّذه اثنتان من أكبر الشركات المصرية في قطاع الإنشاءات، هما "المقاولون العرب" و"السويدي إليكتريك"؛ بهدف توليد الطاقة الكهرومائية. أضف إلى ذلك تحرُّكات أخرى في غانا لعقد صفقات في مجال الكهرباء أيضا، والأهم، جهود مصر المكثَّفة مؤخرا لتقوية الروابط السياسية والاقتصادية والعسكرية مع السودان.
على ما يبدو إذن أن سد النهضة، والصراع الدبلوماسي الذي تخوضه القاهرة لضبط وجدولة ملئه بما يناسب أولويات أمنها القومي والمائي؛ سيؤثر على القاهرة أيضا من أوجه أخرى تتجاوز ملف المياه، وصولا إلى ملفات أخرى مهمة على رأسها التنافس على تصدير الكهرباء والطاقة. ورُغم تعقُّد المفاوضات في ملف سد النهصة حتى الآن، والتعنُّت الإثيوبي الملحوظ في هذا الصدد، تُركِّز القاهرة جهودها على تقوية تحالفها مع الخرطوم، في وقت بات الطرفان يدركان فيه أن أمنهما المائي والطاقوي على المحك، وأن التنسيق الكامل بينهما أصبح ضرورة لا غنى عنها في أي تحرُّكات سياسية أو دبلوماسية، أو حتى عسكرية مُقبِلة.