نزل نبأ رحيل بدن ولد عابدين عن هذه الفانية كالصاعقة على رفاقه القدماء وأصدقائه وأهله وأحبته ، فمنهم من بكى بكاءً حارقا ومنهم من تلعثم لسانه ومنهم من جف حبره ، وبعد الصحوة من هول الصدمة، كان ملجؤنا في قوله تعلى "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ { البقرة: 155-157}"
تذكرت أن المغفور له بدن كان لا يخشى الموت وأنه رسم في الذاكرة نظرته لما بقى من عمره ومن أعمارنا جميعا حينما أبَّن رفيق دربه في النضال من أجل هموم الناس والوطن ، النائب الشهم محمد المصطفى ولد بدر الدين رحمة الله عليه وعلى والدينا، وكتب حينها على صفحة التأبين بيراعه الثاقب في نهاية نوفمبر ٢٠٢٠ :<< ما ذا أقول لكم والوداع مطل كالحريق ونفسي عازفة عن مفارقتكم ، راغبة في الإبقاء على حبال الوصل التي جمعتنا بكم .....>> و كأنه يذكر الرفاق بأن أجل الله آت ولا راد لقضاء الله. لم يشعر أحد بعمق هذه الكلمات التي يتبين لنا اليوم أنها كانت استعداد الرفيق بدن لطابور الرحيل ....
كان بدن رجلًا لا كالرجال ، تشبث بالأخلاق الحميدة والقيم النبيلة والشجاعة وسداد الرأي والاستقامة منذُ نعومة أظافره .
دخل السياسة من بابها الواسع فبعد طرده من الإعدادية الفنية شارك في اجتماع خلية مجموعة الحركة الوطنية الديمقراطية بداية ابريل ١٩٦٨ بتوكومادي بولاية كيدماغا التي كانت نواة ما سيعرف فيما بعد بحزب الكادحين ، كان أصغر المجموعة سناً لكن قيمة المرء في فضله لا في سنه وكما قال الإمام الشافعي :
"أرى الغِرَّ في الدنيا إذا كان فاضلا ترَقَّى على روسِ الرٍّجالِ ويخطُبُ"
سيتولى الرئاسة الفعلية للحركة بتكليفه بالمهام الخاصة وهي مهام حساسة كانت غاية في السرية كان لها الدور الفعال في تحسيس وتثوير الجماهير المسحوقة والطبقة العاملة من أجل المزيد من الحرية والانعتاق والتقدم من خلال نشرة صيحة المظلوم وتوزيعها بأرجاء البلاد المترامية الأطراف، والوعرة الطرق . حمل الرائع بدن أمانة الحركة وضحى من أجلها في عز شبابه بكل نزاهة وتواضع ونكران الذات طيلة فترة الحماس النضالي .ذات مرة اصطادته الشرطة وكان سمكاً مطلوبا الا أن ذكاءه وأريحيته علاوة على تدخل الإمام بداه طيب الله ثراه الذي جاء الى المفوضية وصرخ في وجه المفوض بصوته الجهوري : << أطلقوا سراح بدن إن كان ظالماً وإن لم يكن "فبلا جميل " ، كانا وراء خروجه من الفخ بأعجوبة.
و في أواخر سبعينات القرن الماضي افترق الرفاق واختارت أغلبيتهم الإندماج في حزب الشعب الموريتاني لكن الراحل اختار أن يعتزل السياسة و يخدم الوطن من زاوية الإعلام ، كان له ما أراد وتألق نجمه الثاقب في الإذاعة ، وكان صاحب قلم مدرار وتقارير جذابة ، وحنجرة أليفة ، وكان من الرواد الذين ساهموا بالنهوض بحقل الصحافة بكل جدية وبكل نزاهة وترقى الى درجة مدير البرامج بالإذاعة ومدير قطاع التلفزة التابع للإدارة العامة لهيأة الإذاعة والتلفزة وكان من <<الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادًا>>.
في منتصف الثمانينات أصبح الحقل الإعلامي وكراً للتملق والارتزاق والاستسلام لاستبداد الرأي واختلاط الحابل بالنابل و لم يعد لصاحب المجد الطافح و الشمائل الفريدة موطئ قدم في الحقل الموبوء فذهب بكرامته ليظل رمزاً نظيفا من وسخ الدنيا .
غادر المغفور له بإذن الله الوظيفة العمومية نظيف اليدين من أكل المال العام ، وبادر بإنشاء مركز حر للاستشارات والترجمة وكان أول مترجم تعتمده محكمة الاستئناف ، وظل المغفور له بإذن الله مثابرًا في العمل المتقن ، فبدن لم يكن يعرف الكسل ، والذي يجِدْ ويجتهد سيرى ثمرة عمله بإذن الله ، اشتغل بالوساطة و بتجارة العقار فكان عمله مبروراً ورزقه ميسوراً ، ثم انتقل إلى نواذيبو العاصمة الاقتصادية بداية التسعينات ليتابع أعماله الخاصة ويكون عونا لصنوه محمد الأمي(الثمين)أطال الله في عمره في تسيير رصيف عائم يحتاج للفنية والدقة و المراقبة والعمل اليدوي الشاق الذي كان الراحل بدن يعشقه بكل تواضع .
كما نجح بدن في المهام الخاصة التي كلفه بها رفاقه ، وكما ذاع صيته وتألق نجمه في الحقل الصحافي ، نجح المغفور له في تسيير أعماله الخاصة و في بناء شخصه الفريد الذي اعتمد فيه على النزاهة في المعاملات والثقة المتبادلة مع شركائه .
خصني الراحل بدن بإحدى خرجاته الأولى بعد رحيل محمد المصطفى ولد بدر الدين الى الرفيق الأعلى والتي ذكر فيها عبر وسائط التواصل الاجتماعي أنه سيرفع الحجر عن ما كان مستوراً لدى الرفاق وأنه يريد الاستعانة في جمع ما أمكن من وثائق المرحلة ، كما أنه سيتصل بكل من كان ذا صلة به ليسترجع ما يخصه من ذاكرة الكادحين المفقودة وربطته حينها شقيقي عبد القادر لأنه ناشط على الفيس بوك وصفحته واسعة الانتشار ليدلي له ما لديه من معلومات يتعطش الكثير منا لها ....
وبدأ الأخ عبد القادر ينهل من معين لا ينضب ، ويسرد بطريقته العفوية ونبرته الثائرة أحاديث صاحب المهام الخاصة الشيقة ، لكن الراحل بدن كانت أجندته تتسابق مع الزمن ، وكان حريصا على أن يصحح كل شاردة وواردة صدرت منه حتى الأخ عبد القادر أربكه ضغط بدن الذي كان همه الأساسي التخلص بسرعة وبكل أمانة من كل ما يدور في خوالجه حول المهام الخاصة ، وتابع الرفاق السابقين بمختلف مشاربهم ما سرده بدن ولم يجرأ أيٌ منهم أن يسرد رواية مغايرة لما ادلى به المغفور له بإذن الله .
وبعد إصدار الحلقات الأولى على صفحة عبد القادر "تكاثرت الظباء على خراش @ فلا يدري خراش ماذا يصيد ! " تبين للأخ عبد القادر أن كتابة ذاكرة الكادحين تحتاج لوقت كبير وجهد عسير وتضحية جسيمة، فاقترح على الأخ بدن أن يفتح صفحة خاصة باسمه لإثارة الموضوع ، فقبل المغفور له بدن الاقتراح فكان ذلك بداية تأسيس صفحة "ماارتسم في الذاكرة " التي قال إنها حكاية قصص عايشها ، أو نمت الى مسامعه ، أبطالها مغمورون ، أناس عاديون وهبوا حياتهم لشعبهم ، صنعوا المحال .....
أخذ بدن الثور من قرنه كما يقال وظهر للملأ من جديد بأسلوبه الجذاب يحكي بتواضعه المألوف ما عاشه من تجربة نضالية نبيلة مع رفاقه قبل أن تتفرق بهم السبل ، كان المرحوم بإذن الله دقيقًا في سرده، كان يخاطبني في كل لحظة عبر التلفون والواتساب ومن كل مكان ويسألني : جمال هل لديك رقم الرفيق فلان ؟ هل بحوزتك الوثيقة كذا ؟ هل يحضرك تاريخ الحدث كذا ؟ هل لديك صورة فلان ؟ ويؤكد لي بعد ذلك وجدت فلانا وفلانا وفلانا وتحدثت معهم في موضوع كذا وكذا...
كل هذه الاستفسارات كان الهدف منها الدقة في نقل المعلومة والوفاء لأصدقائه. لم تقتصر الصفحة على تاريخ الكادحين بل دونت لعلماء أجلاء وأدباء أفذاذ ومحاظر شهيرة ورموز من التاريخ الوطني .
أحسست أن المغفور له كان دائما في صراع مع الوقت ، وكان يخاطبني دائما وكأني "شريك له بالصفحة" ما أنت فاعله غدًا افعله الآن ، ويقول لي "بأبوية": "الليلة سيكون موضوع الحلقة كذا واطلب منك أن تبحث معي عن الماد ة الضرورية ( وثائق ، صور الخ ) لتحضيرها...
نالت الصفحة إعجاب القراء باللغتين العربية والفرنسية و استعان المغفور له في ترجمته المقالات الى اللغة الفرنسية بالرفيق أحمد سالم ولد المختار الملقب شداد ، كما ساهمتُ وبعض الأخوة كمحمد فال ولد بلال وعبد القادر ولد محمد ومحمد يحي ولد حي و عبد الرحمن ولد حمزة وشداد في إثرائها ، ولم يكتف المغفور له بالوسائط الاجتماعية بل لجأ للصحف الورقية كالقلم ولفي هيبدو لتدوين روايته حول تاريخ الكادحين ....
كان يتذكر أسماء جميع رفاق مرحلة النضال. ووفاءً له أذكر من ردد أسماءهم هذه الفترة الأخيرة على مسمعي : شداد ، الداه ولد سيد المين ، موسى فال ، الشاعر ، محمد فاضل ولد الداه ، أبناء حي، محمد الحسن ولد لبات، أبناء زين ، ميلود ، سدنة ، بليل ، عبد الرحمن اندور ، حمزة سيدي حمود ، بي بيخا ، الطالب اخيار محمذن ، محمدو الناجي، عينين احمد الهادي المغفور له حبيب الله عبدو ، اشدو ، سي مامادو ، دافا ، لادجي ، محمدو امينْ ، سدي احمد دي وربما نسيت آخرين كما شده الأخ عبد القادر الذي ربطته به .
كان آخر ظهور له في نشاط جمعوي قامت به شبكة الصحفيات الموريتانيات بمناسبة الثامن من مارس لإحياء الذكرى الأولى على رحيل السالكة بنت اسنيد و كتب في نهاية تأبينه لها ما يلي : "قبل عام ودعنا السالكة اسنيد بقلوب حزينة وعيون دامعة وبالأمس القريب ترجل محمد المصطفى بدر الدين فارسٌ من فرسان الكادحين ، وهم كسائر البشر ، سائرون نحو المنون فسابقون ولحقٌ لكنهم ، قبل الرحيل يتزودون ن بخير زادٍ فيعطون لحياتهم مدلولا ليبقى ذكرهم عصيا على النسيان ،مرتسما في ذاكرة الزمن و كأنهم ما ماتوا بل أحياءً خالدون بحسن ما قدموا"
قبل ذلك وتحديدا في ٢٣ من فبراير سجل شهادته في حق الراحل محمد يحظيه بريد الليل في فلم وثائقي في مقطع مسجل بمتحف مكتبة ذاكرة موريتانيا والصحراء ، حيث ذيل كلمته المثيرة للشفقة بما يلي : << "ماذا أقول وقد صبت علينا، في بحر أشهر قليلة مصائب موجعات للقلب ! فما إن خلعنا ثوب الحداد الأسود على المصطفى بدر الدين حتى لبسناه تأبيناً للمغفور له سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وبعده ترجل الفقيد محمد يحظيه ، وكان فارساً من فرسان الوطنية لا يشق له غبار ! "
وكان آخر ما سطره قلم الفقيد وهو يصارع المرض كلمته التي أبَّنَ فيها في ٢١مارس رفيق دربه وزميله في الأعمال محمد ولد السالك باي بيخة شهرةً ومن ما كتب : "اعتصاراً نودع قامة من قامات الكادحين (...)، حريصون على أن يبقى ذكره خالداً مرتسما في ذاكرة الزمن عصي على النسيان..."
كان آخر حديث لي معه يوم الجمعة ١٩ مارس حينما هاتفته لأطمئن على صحته بعد إصابته باللعين كوفيد ١٩ وكان جوابه أن الأعراض خفيفة. و بعدها بعث لي رسالة عبر الواتساب ضمن فيها الآية "قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون" >> ( ٥١).
وفي ٢٠ مارس بعث لي برسالة عبر الواتساب ذكر فيها أن بحوزته العدد ٢٩ من صيحة المظلوم سيهديه للمكتبة. وأذكر أنه فيما يخص الاعتناء بالذاكرة أنه أودع سجل التعازي المفتوح باسم رفيقه محمد المصطفى ولد بدر الدين غفر الله له ، بعد ان صوره وسلم نسخة منه لذويه - للمكتبة لحفظه والسماح لمن فاته حفل التأبين أ ن يسجل شهادته عن الفقيد، كما أنه كان ذات يوم صحبة الوزير محمد فال ولد بلال ، وذكر له هذا الأخير أن بحوزته تسجيلات صوتية قديمة من الطرب يود أن يسلمها لأحد أصدقائنا المشتركين، فكان جوابه : لا! هذه مكانتها موجده بمتحف مكتبة ذاكرة موريتانيا ولا أسمح لك أن تسلمها لكائن ما، وفي نفس اليوم خابرنا الوزير محمد فال ليخبرنا أن لديه هدية للمكتبة، وبالفعل زارنا وسلمنا التحفة المذكورة لحفظها والاعتناء بها قبل أن تندثر.
انقطع اتصالي المباشر مع الأخ العزيز في ٢٢ مارس بعد تدهور صحته الى أن غادر الى الرفيق الأعلى يوم السبت ١٠ ابريل ٢٠٢٠ بلاس بلماس بعد صراع دام ثلاثة أسابيع مع المرض.
سبحان الله ! بالفعل لم يتنبه أي منا إلى هذه العبارات الرنانة : الفراق ، بقية من العمر ، المصائب، السابقون ،اللاحقون كما أشار إلى ذلك الوزير محمد فال ولد بلال والأخ عبد القادر وأن صفحة <<ما ارتسم في الذاكرة >> كانت بمثابة توديع لنا وكانت تركةً كشفت للجميع الوجه الساطع المنير لأحد أبرز مؤسسي حركة الكادحين .
يبدو أن المغفور له نعى نفسه حين أبَّنَ رفيق دربه محمد المصطفى بدر الدين وخاطب أخواته وإخوانه قائلا: "وختاما يبقى في أذني رنين كلمة بسيطة، عميقة الدلالة، سطرها، عميدنا موسى فال أطال الله عمره موجها كلامه لمن مازالت أمامه بقية عمر << لنعطي مدلولا لحياتنا>>. و مع أني أشاطره الرأي السديد في اعتقادي ، الا أن أغلب ظني ان من هم في مثلي ، في أواخر العمر محتاجون الى جعل أيامهم ذات مدلول ٍ ومعنى فالأمور بخواتمها . اللهم احسن خاتمتنا في الأمور كلها." وكانت خاتمته حسنة و عمل أيامه ذا مدلول، طيب الله ثراه ، غدا الأربعاء ١٤ ستقام صلاة الجنازة بعد صلاة العصر بمسجد بن عباس و سيوارى الفقيد الثرى بإذن الله برياض الصالحين باحسي السعادة الى جانب والدته ميمونه احمد عبيد ووالده عابدين شداد غفره الله لهم جميعا وأحسن مثواهم ورحم أسلافنا وأسلافهم وبارك في الخلف وإنا لله وإنا إليه راجعون.