بنت فرنسا صورتها الذهنية على أساس أنها دولة حرية الرأي والصحافة، وأنها الدولة التي تكفل لكل مواطن الحق في الحصول على المعلومات وتبادلها، وحق التعبير عن الرأي.
وأثارت تلك الصورة الإعجاب في نفوس كل الأحرار في العالم، فالدولة التي تكفل حرية الصحافة تستحق الإعجاب والتمجيد، فهذه الحرية هي أساس التقدم، والمجتمع الذي يتمتع بها يتمكن من التوصل إلى حلول مبدعة لمشاكله، وإنتاج أفكار جديدة يقوم عليها اقتصاد المعرفة.
لكن دراسة التاريخ توضح لنا أن تلك الصورة الذهنية كانت نتيجة للمبالغة والتضليل والدعاية، وأنه تم التعامل مع هذه الحرية بعنصرية ومعايير مزدوجة، وأن فرنسا حرمت الشعوب التي احتلتها من هذه الحرية حتى لا تستخدمها الحركات الوطنية في توعية شعوبها لمقاومة الاحتلال وكشف الحقائق عن الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي.
يمكن أن نتوصل إلى نتيجة مهمة هي أن الصحافة الأوروبية كلها قد شاركت في إخفاء الحقائق والتعتيم على الجريمة الأوروبية في الجزائر
حرمان الشعب الفرنسي من المعرفة
دراسة تاريخ الصحافة الفرنسية يوضح أن السلطات قيّدت حق الصحافة الفرنسية في الحصول على المعلومات عن المذابح التي ارتكبتها في الجزائر منذ عام 1830 حتى عام 1870.. وأن هذه السلطات استخدمت الصحافة وسيلة للدعاية عن طريق تصوير مقاومة الشعب الجزائري بأنها جرائم تقوم بها مجموعة قليلة من الإرهابيين.. بينما كانت الحقيقة أن شعب الجزائر كله كان يقاوم الاحتلال الفرنسي بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري، وأن الجيش الفرنسي كان يحرق القرى بحثا عن الأمير عبد القادر وجنوده الذين ألحقوا الكثير من الهزائم بالجيش الفرنسي، حتى اضطرت فرنسا إلى مناشدة الدول الأوروبية باسم المسيحية أن تمدها بالأسلحة والجيوش، وبذلك تكون أوروبا كلها قد ساهمت في ارتكاب مذابح ضد الإنسانية في الجزائر، وإحراق القرى والمدن، وإبادة نصف الشعب الجزائري.
وهنا يمكن أن نتوصل إلى نتيجة مهمة هي أن الصحافة الأوروبية كلها قد شاركت في إخفاء الحقائق والتعتيم على الجريمة الأوروبية في الجزائر.. فكيف يمكن أن نفسر تلك النتيجة؟
يمكن أيضا أن نكتشف حقيقة مهمة من دراسة تاريخ الصحافة الفرنسية، حيث ارتبط إخفاء الحقائق عن جرائم فرنسا في الجزائر بالتعتيم على الفساد الداخلي في فرنسا، فعلى الرغم من أن الإمبراطور نابليون الثالث قد أعلن عند توليه الحكم أن هدفه هو القضاء على الفقر في فرنسا، فإنه استخدم الأموال التي تم جلبها من الجزائر لإقامة قصور خاصة له تميزت بالبذخ الشديد، لذلك تزايد فقر الشعب الفرنسي حتى اضطر للثورة عليه عام 1870.
وهذا يعني أن الصحافة الفرنسية تخلت عن دورها في كشف انحرافات السلطة وفسادها، وأن الإمبراطور نابليون الثالث لم يحترم حرية الصحافة، وحق الشعب الفرنسي في المعرفة، وأنه استخدم الصحافة لتضليل الشعب.
جوهرة الممتلكات الفرنسية
في رسالته للدكتوراه، يشرح هالي براون كيف أصبحت فرنسا قوة استعمارية خلال القرن التاسع عشر، وكيف توسعت ممتلكاتها في العالم، لكنها كانت تعتبر أن الجزائر هي جوهرة ممتلكاتها، فهي مركز التجارة بالنسبة لأفريقيا، وأن فرنسا استغلت الموارد الطبيعية الجزائرية التي كانت مصدر قوة فرنسا، وأساس قوة اقتصادها.
وقد بررت الصحافة الفرنسية احتلال الجزائر بأن فرنسا يجب أن تنشر حضارتها التنويرية في البلاد الأقل تنويرا، وأنها يجب أن تنشر الفرنسة على كل المستويات في اللغة والثقافة.
وبذلك كانت الصحافة الفرنسية تبرر الجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي.. فهل التنوير الفرنسي يقوم على استخدام القوة الغاشمة في إبادة البشر وحرق القرى والمدن وقطع رؤوس أبطال المقاومة الجزائرية؟!!
يقول هالي براون إن القيم الفرنسية التي تم الإعلان عنها خلال الثورة الفرنسية تم التلاعب بها، واستخدامها في السيطرة على الشعوب ولتبرير الاستعمار، وأن هذه القيم لم تطبقها فرنسا على كل البشر، حيث تم حرمان الشعوب التي فرضت عليها فرنسا سيطرتها من تطبيق هذه القيم عليها، وتم التعامل معها بعنصرية، فتم استثناء شعوب الجزائر وأفريقيا من حقوق الإنسان.
بضيف هالي براون أن إعلان حقوق الإنسان الذي أعلنته الثورة الفرنسية تم تطبيقه بشكل انتقائي، فهو امتياز لجماعة عرقية هي البيض، وكتبرير لسيطرة البيض الذين يتميزون بالمعرفة على الشعوب غير المتحضرة.. وهذا يعني أن ذلك الإعلان تحوّل إلى وسيلة للدعاية الأيديولوجية.
النفاق الفرنسي
هذا يوضح أن مشروع التنوير الفرنسي تميز بالنفاق والتفرقة العنصرية، وأن الصحافة الفرنسية خلال القرن التاسع عشر ساهمت في زيادة الغرور العنصري الفرنسي عن طريق التركيز على ما أطلقت عليه المجد الفرنسي.. فهل كانت الصحافة الفرنسية مشاركا في الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر أم أنها كانت ضحية لعملية تقييد ورقابة وتلاعب، وأن السلطة منعت المعلومات عنها ولم تمكنها من تغطية الأحداث؟!
إن دراسة تاريخ الصحافة الفرنسية خلال القرن التاسع عشر توضح أنها اقتصرت على نشر الرواية الرسمية للأحداث، ولم تسمح بنشر ما يمكن أن يشكل تحديا لتلك الرواية.
يقول هالي براون: إن القرن التاسع عشر سيطرت عليه الرواية الاستعمارية، وهذه الرواية جعلت الدول الاستعمارية تنعزل عن الشعوب داخل ما يطلق عليه النادي الثقافي الاستعماري الذي يقوم بتبرير العمليات الاستعمارية، والتركيز على العنصرية الغربية.. ولقد ركزت الصحافة الفرنسية على هذه الرواية ومجّدت الاستعمار.
لكنْ هناك جانب آخر أخفته الصحافة الفرنسية هو تعليمات قادة الجيش الفرنسي لجنودهم، وتشمل تلك التعليمات: أنكم -أيها الجنود- تكملون مهمة آبائكم الصليبيين، وتقومون بمهمة عظيمة هي انتصار الأمة المسيحية على المسلمين.. وهذا الخطاب الذي استخدمته فرنسا لحث الدول الأوروبية على إمدادها بالأسلحة والجنود لتحقيق النصر على المقاومة الجزائرية.
وهذا يكشف أن الصحافة الفرنسية قامت بتجهيل الشعوب وعدم نشر هذه التعليمات أو الإشارة إلى الجانب الديني المسيحي في تعبئة الجنود الفرنسيين والأوروبيين، وكيف أن ذلك يشكل نفاقا فرنسيا، وتناقضا حادا بين الشعارات التي رفعتها فرنسا لتصور بها نفسها، وبين الجرائم التي ارتكبتها ضد الإنسانية في الجزائر.
العنصرية الأوروبية
إن العنصرية الأوروبية يمكن أن تشكّل تفسيرا لتعامل الصحافة الفرنسية مع حرية الرأي والصحافة، حيث إن هذه الحريات يتمتع بها الأوربيون، وتكون أساسا لتحقيق التقدم في أوروبا، ولكن يتم حرمان الشعوب الأخرى منها حتى لا تستخدم في مقاومة الاستعمار.. فالصحافة الفرنسية مثل الحكومة والجيش تتعامل باستكبار واستعلاء مع الشعوب الأخرى.
يتضح ذلك أيضا من تعامل سلطات الاحتلال الفرنسي مع الوطنيين الجزائريين ومنعهم من إصدار الصحف، وحتى عندما تمكن بعضهم عقب الحرب العالمية الأولى من إصدار صحف، كانت سلطات الاحتلال تقوم بمصادرتها وإغلاقها.
وهذا يوضح أن فرنسا تستخدم المعايير المزدوجة في التعامل مع حرية الرأي والصحافة، كما أن نظرتها الاستعمارية العنصرية تحكم تصرفاتها في التعامل مع الشعوب التي تري أنها ليس لها الحق في التمتع بحرية الصحافة، واستخدامها كسلاح في مقاومة الاحتلال.
لذلك فإن التاريخ يحتاج إلى دراسات تكشف الحقائق، وتتحدى تلك الخرافات العنصرية التي تم الترويج لها خلال القرن العشرين، وتلك الصور التي تم ترسيخها في أذهان الشعوب حول فرنسا وديمقراطيتها ومبادئها وقيمها.
إن دراسة تاريخ الصحافة الفرنسية توضح أنها كانت وسيلة استخدمها الاستعمار، وأنها لم تقم بتغطية الأحداث، وأنها تبنت الرواية الرسمية، وقامت بترويجها وتضليل الشعب الفرنسي.
يحتاج العالم إلى صحافة حرة تكشف الحقائق دون تحيز عنصري، ودون تطبيق معايير مزدوجة أو كيل بمكيالين.. العالم يحتاج إلى صحافة حرة تدين الظلم وقهر الشعوب، وتتعامل مع الحرية والديمقراطية باعتبارها حقوقا لكل الشعوب، وتكشف الحقائق، وتوفر المعرفة للجماهير، وتكون وسيلة الشعوب للتحرر وتحقيق الاستقلال الشامل.
كيف غطت الصحافة الفرنسية الثورة الجزائرية؟
إن دراسة تغطية الصحافة الفرنسية للثورة الجزائرية تكشف أنها تعتمد بشكل مكثف على المصادر الرسمية، وتتجاهل المصادر الأخرى، وأن المضمون الذي قدمته لا يختلف عن ذلك المضمون الذي تقدمه الصحافة في الدول الدكتاتورية التي تفرض الرقابة على صحافتها، وأن العنصرية والتحيز والتركيز على خطاب السلطة أهم سمات تغطية هذه الصحافة التي تتفاخر بالحرية.
وحتى الآن تتعامل الصحافة الفرنسية مع المسلمين بشكل عنصري، فهي تدعو إلى إنقاذ المرأة المسلمة من سيطرة الرجل، لكنها لم تستنكر سلوك الجيش الفرنسي وهو يقوم بإبادة الجزائريين وحرقهم وتعذيبهم واعتقال نسائهم.
لكن لماذا تقدم صحافة لا تسيطر عليها السلطة ولا تخضع للرقابة هذا المضمون الذي يقتصر على الرواية الرسمية ويضلل الشعب؟!!
إن التحيز يمكن أن يؤدي إلى نتائج تتشابه مع تلك التي تنتج عن استخدام الدول الدكتاتورية للرقابة، فالعنصرية والثقافة الاستعمارية جعلت الصحفيين الفرنسيين لا يتعاطفون مع دماء البشر التي يشاهدونها تتدفق نتيجة استخدام جيشهم للأسلحة الحديثة التي تطورت في عصر التنوير الأوروبي، وأبدعها العقل الأوروبي الذي كان يرفع الشعارات حول حقوق الإنسان بينما يطور الأسلحة لإبادته.
لذلك يحتاج العالم إلى صحافة حرة تكشف الحقائق من دون تحيز عنصري، ومن دون تطبيق معايير مزدوجة أو كيل بمكيالين.. العالم يحتاج إلى صحافة حرة تدين الظلم وقهر الشعوب، وتتعامل مع الحرية والديمقراطية باعتبارها حقوقا لكل الشعوب، وتكشف الحقائق، وتوفر المعرفة للجماهير، وتكون وسيلة الشعوب للتحرر وتحقيق الاستقلال الشامل.
لكن لكي نبني الاعلام الحر لا بد أن ندرس التاريخ، ونكشف الحقائق أمام الشعوب لتتخلص من الزيف الذي تراكم طوال القرنين السابقين.
الشعوب تحتاج إلى إعلام حر يوفر لها المعرفة لكي تتمكن من بناء مستقبلها، ولتتخلص من الإرث الاستعماري القبيح، ولتحاكم كل الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية.