د. بدّي ابنو المرابطي
1ـ توطئة
هل يمثّلُ الفضاء المغاربي في تعريفه السياسي الراهن فضاءً واحداً وبأي معنى؟ أي هل يمكنُ أن يُنظرَ إليه بجدّية على أنّه يمنح مستوى مَا من المصداقية السياسية والاقتصادية للسرديات السائدة عن “الوحدة الثقافية”؟ و”المشترك” و”التكامل” “والذّاكرة الجماعية” إلخ؟
يحبُّ صديقنا الراحل “بول بالتا” أن يروي أنه في بداية عمله كصحفي في دول المغرب سأل أحدَ أصدقائه عن الصفات المشتركة لشعوب هذه البلدان. فأجابه بالعبارة الشهيرة التي تقول إنّ ما يجمعهم هو فقط “حكّ الرؤوس ولبس البرنس وأكل الكسكوس″.وقد يكون فعلا حكّ الرؤوس وأكْل الكسكوس يعبران بشكل خاص، واقعا ومجازا، عن نمطٍ من السلوك السياسي الذي حكمَ وربما ما يزال يحكم مستوى معتبرا من العلاقات التي تربط الأنظمة الحاكمة في دوّل المغرب.
صحيحٌ أنّ مستوى ملموساً من التّجانس المذهبيّ والثّقافيّ واللغوي و،إلى حدٍّ ماَ، الاجتماعيّ ومن الاستمرار الجغرافيّ يمثّلُ ميزةً يُفتَرض أنّها تمنح دولَ المغرب فُرصاً أكثر في التّكامل. وصحيحٌ أنّ طموحات بعض هذه الدّول في إيجاد موقعِ قدمٍ جدّي في فضاءات أخرى موازية قد فشلتْ بنسبة كبيرة خصوصا منذ بداية تراجع الحرب الباردة. ولكنْ صحيحٌ أيضا أنّ الـ31 سنة التي مضتْ من عمر الاتحاد قد أظهرتْ أن المشترك السياسي لم يتجاوز كثيرا مستوى الإجابة المسجوعة.
2ـ المشروع الاتحادي : جدلية السياسي والاقتصادي
تُجمِع المعطيات المنشورة على أنّ نسبة التّبادل التجاريّ البيني في فضاء دول المغرب الخمس أقلّ من ثلاثة بالمئة من مجموع تبادلاتها التّجارية الخارجية. بينما يصل التّبادل التّجاريّ البينيّ مثلا في فضاء الاتّحاد الأوروبيّ نسبة 67 بالمئة من مجموع التّبادلات التّجاريّة الخارجيّة لدول الاتّحاد. تُظهر هذه النّسبة الإشكاليّة الأساسيّة الّتي عانتها مؤسّسات الاتّحاد المغاربيّ منذ إنشائها رسميّا في 17 فبراير 1989.
لقد كانت الفكرة الرائجة في الأجواء التي قادتْ من زرالدة بالجزائر (10 يونيو 1988) إلى مراكش (17 فبراير 1989)هي أنّ الخلافات بين الدّول المغاربيّة هي أساسا سلطوية موروثة عن استقطابات الحرب الباردة وعن الخلفيات الاستعمارية لذلك الاستقطاب؛ وأنّ مناخ ما بعد هذه الحرب سيدفع شيئا فشيئا إلى تراجع الحدّيات السّياسيّة؛ وأنّ تهيئة حلّ هذه المشكلات بين الأنظمة هو فصلها عن المصالح اليوميّة لمواطني الدّول الخمس المؤسّسة. وذلك عن طريق تكامل اقتصاديّ تدريجيّ والسّماح بالتنقل الحرّ للأفراد والبضائع والخدمات والرساميل (مع افتراض أنّ قضية الصحراء العويصة سيسهل حلّها في مرحلة ثانية عندما تتحسّن الفاعلية الاندماجية أكثر، مع طرح إمكانية توسيع الاتحاد وهو ما عنى مثلا أن مصر كانت في مرحلة أولى مهتمة رسميا بالانضمام له)؛ وأنّ هذا التكامل التدريجي سيمثّل أرضيّة تُحَجِّم شيئا فشيئا نقاط الخلاف السّياسيّ وتدفع الرّأي العامّ إلى تجاوزها.
وبداهة كان مناخُ تشكّل عشرات التكتلات الاقليمية في أواخر الثمانيات عاملا محفزا. كما أنّ انتهاء الحرب الباردة قد أشعرَ الأنظمة المغاربيّة حينها أنّ المنظومات الأمنيّة الدّوليّة الّتي كانت “سندها” هي إمّا قيد الاندثار أو قيد إعادة التّشكّل حسب الدّول.
إلى ذلك كان التّكامل الأوروبّيّ (حينها المجموعة الاقتصادية الأوروبّيّة) هو النّموذج الحاضر في الإنشائيات التسويقية. ما كان يُستنفرُ هنا في هذا المثال هو طبعا كون الدّول الأوروبّيّة، الّتي عرفتْ ليس فقط خراب الحرب الكونية الثانية (ما يناهز 50 مليون قتيل) ولكن سلسلة من الحروب الطّويلة والنّزاعات الوطنية، نجحتْ “أخيرا” عبر البوّابة الاقتصاديّة ( تجارة الفحم والصّلب) في تحييد الخلافات السّياسيّة نسبياً وتدريجيّا. نجحتْ إلى درجة أن ألمانيا وفرنسا تخطتا بمستوًى ما الخلافَ حول انتماء الأَلْزَاس وَاللُّورِين رغم سلسلة الحروب الإبادية الّتي خاضتاها بسببهما وورطتا فيها أوربا والعالم.
3ـ ممكنات التكامل الاقتصادي الغائب
ركزتْ الدراسات والتقارير المتعلقة بهذه النقطة على إمكانية تكاملٍ اقتصادي يَسمح بزيادة الإنتاج الكلي للدول الخمس بالنصف خلال سنتين. وتُلاحظ تقارير البنك العالمي أن التبادلات التجارية تتمّ أساسًا بين دول المغرب وأوربا لأسباب ترتبط بانعكاسات ظروف تاريخية من جهة وطبيعة السلع المتبادلة من جهة أخرى. ولكن أيضا تضيف التقارير بسبب الجهود التي تقوم بها دول الاتحاد المغاربي بصفة فردية معزولة عن بقية الدول الأخرى بينما يظل شريك كل منها الاتحاد الأوربي مجتمعا. وهو ما يعني من جهة أن هذه الدول لا تقوم بجهود موازية لرفع مستوى تبادلها البيني البالغ الانخفاض. ومن جهة ثانية أن تعاملها فُرادى مع الاتحاد الأوربي، وأيضا مع الولايات المتحدة ومع الصين، يحْرمها من مزايا موقع القوة النسبي التفاوضي الذي يُفترض أن التنسيق الاتحادي أو الجماعي يسمح به. ويَصدُق ذلك خصوصا بالنظر إلى إمكانية تكاملِ المصادرِ البشريةِ والطبيعيةِ المغاربيةِ[1] واستثمارِ الموقع الجيوستراتيجي متوسطياً وأطلسياً وإفريقياً والتقاطعات المرتبطة به[2]. وتُكررُّ جلُّ الدراسات أنه بالرغم من وجود مصادر استثنائية استراتيجية في دول المغرب إلا أن استغلالها مازال جدّ ضعيفٍ لأسباب سياسية. وقد لاحظتْ مثلا سنة 2008 الدراساتُ على صعيد مصادر النفط والغاز غيابَ العمل على توسيع شبكة الأنابيب التي قد تكفي لو تمّ تطويرها خلال العشرية الماضية لتغطية الحاجيات الأساسية المحلية الطاقية قبل نهاية العام الجاري 2020[3]. كما لاحظتْ الدراسة الأخيرة نفسُها أن البنوك المغاربية تحتوي كميات كبيرة من السيولة الغير المستخدمة والتي لا تتمتع بأدوات مالية تكاملية عبر سوق مشتركة. وطبعا هنالك ملاحظات مشابهة حول شبكة الطرق والتكامل في الأمن الغذائي.
4ـ في السياسة: مثالُ الثنائي المغربي الجزائري
يبدو أن إشكالية العجز الشرعوي للأنظمة والاستقطاب الجيوستراتيجي واختلاف الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وضعف أداء النّخب بلْ هشاشتها وارتهانها للبنْينة القطرية، وتقوقع النظم السياسية القائمة داخل أطر التركة السياسية الموروثة مرْكزياً عمّا قبل نهاية الحرب الباردة هي العقبات الرئيسة التي يزيد من تعقيدها أنها ما تزال بنسبة معتبرة خارج المساءلة بلْ خارج ميدان المفكّرٍ فيه والمفكَّرٍ حوله.
وبالرغم من التحسن النسبي في التداول السياسي في الدول المغاربية (شهد مثلا العقد ونصف العقد الأخيرين انتقالا تعدديا معتبراً في المملكة و خروجا تدريجياً للجزائر من تداعيات العشرية الدموية وأظهر الحراك الجزائري الأخير نضجا سياسيا ومدنياً فاجأ معظم المتابعين)، وبالرغم كذلك من وجود نقاش حيوي حول قضايا كثيرة لدى النخب السياسية والثقافية في البلدين إلا أنّ نظاميهما نجحا في نقل حزازاتهما واستقطاباتهما الموروثة عن الحرب الباردة إلى النخب السياسية والثقافية لتتسع الاصطفافات الرسمية فتصبح أيضا “اصطفافات شعبية”، تنتقل من مستوى المفتعَل إلى مستوى الفاعل وإلى ما يشبه السرديات الوطنية.
فيمكن أن يقال دون كبير مبالغة إن المجتمع السياسي في الجزائر يختلف تقريبا على كل المواضيع المناقشة لديه باستثناء موضوع الحزازات مع المملكة كما يمكن أن يقال نفس الشيء عن المجتمع السياسي في الممملكة تجاه الحزازات مع الجزائر. وشرائح واسعة من نخبهما منكفئة على اجترار الاصطدامات البينية المرحلية واستثمارها ومحاولة تأبيدها وأسْطرتها. وطبعًا لا يَتعلّقُ الأمر فقط بالجانب الدعائي المحلّي ولكنّه يتعلق في مستوى معتبر بالسلوك السياسي الداخلي والخارجي.
وحتى المجموعات التي كانت تقف مثلا في السبعينات والثمانينات خارج هذا الاجماع قد أُدمجتْ أو اندمجتْ فيه شيئا فشيئا. فقد شهدتْ الساحتان عملية إعادة تمركز إيديولوجي أصبحتْ معها شرعية التموقع الداخلي في كلّ قطر مرتبطة بالقدرة على رفع الحزازات المرحلية مع الجار المشيطَن إلى مستوى “الثوابت”.
وهو ما يعني من بين ما يعنيه أن التفكير في الموضوع المغاربي بشكل جدّي يقتضي في المنطلق القدرةَ على مساءلة ما يُفترض أنّه النخب السياسية والثقافية االقائمة مغاربياً (سواء باعتبارها سوسيولجياً نخباً فعلية أو باعتبارها على الأقل بديلاً بحكم أمر الواقع عن النخب المحيّدة وتلعب دوراً يُنظرُ إليه اجتماعيا وسياسياً كدور بديل) وعلى الجرأة على إدراج أدوار ومسؤوليات هذه النخب المفترضة في ميدان المفكَّر فيه والمفكَّر حوله.
أي أنه يقتضي في الخلاصة الجرأة على مساءلة العقل العمومي لـ”لنخب” والحكومات المغاربية ومراجعتها فيما يعنيه حاضر وبالتالي مستقبل أكثر من مائة مليون مغاربي يعيشون – على أكثر من صعيد – خارج مسار العصر، يعيشون مجيّشين ضدّ بعضهم البعض في عصر التكتلات الكبرى رغم أنهم يمتّمعون، مع وقف التنفيذ، بفضاء جغرافي متوسطي وأطلسي يناهز الستة ملايين كيلومتر مربّع هو، إذا اندمجَ حتى في الحدّ الأدنى، الأهم اقتصاديا واستراتيجياً في عموم إفريقيا.
[1] تقرير البنك العالمي عن الاندماج الاقتصادي المغاربي 2010 : Mustapha Rouis, Komlan Kounetsron, Farrukh Iqbal, Economic Integration in the Maghreb, Washington, The International bank of Reconstruction and Development/The World Bank, 2010 (http://siteresources.worldbank.org/INTMENA/Resources/Maghrebpub.pdf).
[2] انظر تقرير مفوضية الاتحاد الأوربي لسنة 2012 عن الاندماج الجهوي المغاربي: The High Representative of the Union for Foreign Affairs and Security Policy, Supporting closer cooperation and regional integration in the Maghreb: Algeria, Libya,
Mauritania, Morocco and Tunisia, Brussels, European Commission, 2012 (file:///C:/Users/iesen/Downloads/2012_joint_communication_maghreb_en-1%20(1).pdf).
يمكن كذلك النظر حول هذا المعطى إلى ورقة وحدة البحث الخاصّة بالبرلمان الأوريي المقدَّمَة سنة 2014 تحتَ عنوان “اتحاد المغرب العربي والتكامل الإقليمي : التحديات والآفاق (The Union Of The Arab Maghreb And Regional Integration: Challenges And Prospects)”
[3] انظر مثلا دراسة غاري كلايدهوف باورا وكلير برونيل، التكامل المغاربي إقليميا وعالميا، حلم يجب تحقيقه، معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، 2008 : Gary Clyde Hufbauer and Claire Brunel, Maghreb Regional and Global Integration, A Dream to Be Fulfilled, Washington, Peterson Institute for International Economics, 2008.
مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل
المصدر: رأي اليوم