قرأت لبعض أصدقاء هذه الصفحة كلاما مختلف الرؤى والمعايير عن التعريب؛ وبعيدا عن الرغبة في الجدل العقيم أسجل النقاط التالية، لعلها تنير بعض ما يكتنف هذا الموضوع من ضبابية:
أولا: يظهر لي أن أي سياسي عاقل يتكلم اليوم عن التعريب في موريتانيا ينبغي أن يتكلم عنه، انطلاقا من أن العربية لغة الإسلام الذي يعتنقه كل الموريتانيين، والذي يشكل الصفة الثانية في اسم دولتنا، كما اتفق على ذلك مؤسسوها، وأن هذه اللغة، فضلا عن ذلك، قررت صناديق الاقتراع أن تجعلها لغتنا الرسمية في مادة من دستورنا، وكنا لأكثر من عقد من الزمان رسمناها، دون أن يثير ذلك أي اعتراض ولا جدل.
ثانيا: كان لسكان الجنوب عموما، ولقوميات البولار، والسونكي، والولف دور كبير في النهوض باللغة العربية والدين الإسلامي؛ بحروفها كتبوا لغاتهم، وبشعرها تأثروا في أشعارهم، وعن طريق مشاعرهم الإسلامية التي كونتها لغة الإسلام قاوموا المستعمر الفرنسي، ونازلوه منازلة لم يشهد مثلها من غيرهم في هذا الوطن؛ لدرجة جعلت المستعمر يصنف جهاد الحاج عمر تال وأبنائه من أمراء دولة الأئمة في الضفة بأنه النسخة الأكثر شراسة من جهاد الأمير عبد القادر الجزائري.
ثالثا: في السنغال ومالي والنيجر انتشار سريع للغة العربية لم تعرفه من قبل؛ يقوم على تمويل ذاتي وضغط شعبي كبير.
وسأقف هنا فقط عند جمهورية السنغال التي يحكمها الآن، ولأول مرة منذ استقلالها، رئيس من قومية البولار هو الرئيس ماكي سال، الذي وقع إبان حملته الرئاسية مذكرة اتفاق مع الحركة الاجتماعية المطالبة بالتمكين للغة العربية، وقد اعترفت السنغال رسميا بالشهادات العربية التي يمنحها التعليم الأهلي المشرع، وسمحت لأصحابها بولوج الجامعات الحكومية، كما سمحت لأصحاب الشهادات الجامعية الذين تكونوا في الدول العربية بالمشاركة في مسابقات التوظيف المختلفة، وهناك ضغوط اجتماعية تحملها نخب واسعة من المثقفين السنغاليين لتوحيد لغة التعليم في لغة غير الفرنسية من اللغات الوطنية، وترسيم اللغة العربية.
أجل لقد أبعدت فرنسا البولار عن المشهد الوظيفي، والثقافي، والسياسي السنغالي خلال عقود الاستقلال الأولى؛ انتقاما من مقاومتهم الشرسة، وخوفا من تمسكهم القوي بالدين الإسلامي واللغة العربية، لكنهم استطاعوا الآن تصدر ذلك المشهد؛ حاملين هويتهم الإسلامية العربية البولارية.
من هنا فلا غرابة أن يعلن أمس الوزير والسفير السنغالي السابق أمادو تيجان وون، تخليه عن "وسام جوقة الشرف الفرنسي، ووضعه تحت تصرف السفارة الفرنسية بداكار، وذلك من أجل شرف النبي محمد."
وأن يبعث برسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متهما إياه بالسعي إلى تحويل المتهورين إلى أبطال، قائلا إنه "لا يتشرف بأن يتقاسم نفس الوسام مع صامويل باتي، لأسباب عميقة ومقدسة". ويتناغم ذلك مع الكلمة القيمة التي قالها الرئيس السنغالي ماكي صال قبل ذلك بيومين أمام الرئيس الفرنسي، والتي أعلن فيها رفضه الربط بين الإسلام دين السماحة والتطرف قائلا: "نحن أفارقة وأنتم أوروبيون، لسنا متطابقين".
رابعا: يجب علينا أن ننصت لخطاب المنطق والعقل حتى نتفهم أن مثقفي البولار الذين يحملون لواء التعريب في السنغال؛ لأنهم لا يقبلون تهميش نخب فرانكوفونية لا تستند إلى مسوغات منطقية، ولا إلى قواعد انتخابية، من حقهم كذلك في موريتانيا أن يرفضوا التعريب خوفا من التهميش والحرمان إذا كانت نفس المعايير القائمة في السنغال هي ذاتها القائمة في موريتانيا.
وأعتقد أن الأمور مختلفة تماما؛ ففي موريتانيا قضية التعريب حسمها الدستور، ويبقى على النخب السياسية والثقافية والدينية أن تعمل على محاربة الغبن والتهميش حتى يشعر كل مكونات المجتمع بحقهم في وطنهم بالتساوي في ولوج الخدمات والوظائف والحقوق.
وقد تقتضي المصلة العامة اعتماد سياسة تشجيعية تمييزية في التعليم والتعيين لبعض الفئات الاجتماعية التي لم يتسن لأبنائها التعليم بسبب ظروفهم المعيشية أو وضعهم الاجتماعي.
أما قضية اللغة الفرنسية في موريتانيا فأغلب العاملين بها الآن في القطاعين العام والخاص قد تكيفوا معها فجأة بعد انقلاب 2005، ولا يتقنونها حديثا ولا كتابة ولا شعورا، وأغلب معلمي الابتدائية عندنا يطبقون الازدواجية، لكنهم لا يعرفون الفرنسية، أما في التعليم الثانوي فهم من خريجي اللغة الإنجليزية أو العربية؛ لأن المدرسة العليا للأساتذة تضطر حين يكون العدد كبيرا من أساتذة الفرنسية أن تضيف معها لغة أخرى حتى تجد العدد، والسنة الماضية أعلنت أنها تريد خمسة عشر من خريجي اللغة الفرنسية وحدها للتعليم الثانوي؛ فلم يتقدم لها سوى ثلاثة، تغيب أحدهم عن الامتحان.
فكيف لنا أن نستمر في:
- مخالفة الدستور في عدم تعريب الإدارة تعريبا كاملا؟
- مهزلة تدريس المواد العلمية بلغة لا نستطيع أن نوفر بها المعلمين في الابتدائية ولا في الثانوية في الوقت الذي يعمل فيه جيراننا في الجنوب على اعتماد لغة وطنية موحدة للتعليم؟