يشق المهاجرون في القرن الـ21 طريقهم عبر البحر من ليبيا وسوريا إلى أوروبا هربا من ويلات الحرب، لكن قبل 1300 عام سلك الراهب الأفريقي هادريان والأسقف ثيودور الطرسوسي الطريق ذاته من أجل نشر المعرفة والعلم والثقافة في ربوع إنجلترا وأوروبا بأكملها.
وفي مقاله الذي نشره موقع "هيستوري إكسترا" البريطاني، يقول الكاتب مايكل وود إن إنجلترا كانت أرضا بلا هوية ثقافية ولا دينية عندما وصل إليها الراهب الأفريقي هادريان قادما من ليبيا عام 670 ميلادية. وفي غضون سنوات، ساعد هادريان وصديقه ثيودور القادم من سوريا، في وضع أسس الثقافة الإنجليزية.
ويؤكد الكاتب أن بريطانيا عرفت السكان الأفارقة في عهدها الروماني، والذين قدموا من موريتانيا والمغرب والجزائر، لكن بعد نهاية عصر بريطانيا الرومانية والحملات البريطانية المبكرة بالخارج في عهد أسرة تيودور التي ضمت 5 ملوك حكموا إنجلترا بين عامي 1485 و1603، لم يكن للأفارقة دور بارز في تاريخ البلاد، على حد قوله.
وفي عام 731، كتب المؤرخ الراهب الإنجليزي بيدا المكرم عن "رجل من أصل أفريقي، ربما كان بربريا (أمازيغيا)، يعد رائدا لأحد أهم الحركات الثقافية خلال السنوات الـ 1400 الماضية، ومعلما لعب دورا استثنائيا في تاريخ اللغة الإنجليزية. وقد ولد هذا الرجل في شمال أفريقيا وأمضى آخر 40 عاما من حياته في إنجلترا ودفن هنا، وكان لديه اسم روماني جميل، هو الأب هادريان الأفريقي".
من شمال أفريقيا إلى بريطانيا
لكن، كيف تمكن رجل من شمال أفريقيا ولد في أوائل القرن السابع الميلادي، من تغيير مسار التاريخ الإنجليزي؟
يقول الكاتب إن القصة تبدأ من الأرض التي ولد فيها هادريان، ليبيا، حيث اختلط الإغريق بالسكان المحليين، ومن هناك جاء بعض آباء الكنيسة الأوائل، منهم الأسقف كودفولتداوس القرطاجي الذي قدم من شمال أفريقيا إلى أوروبا.
ويُرجح أن هادريان نشأ في أبولونيا الساحلية (شمال شرق ليبيا)، والتي كان تضم نحو 4 كنائس بيزنطية في أيامه، وقصرا رومانيا كبيرا. وقد أعيد بناء المدينة خلال القرن السادس في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان.
وحسب الكاتب، فإن الفتح الإسلامي لمدينة بنغازي المجاورة في عام (642 ميلادية) وبالتالي انهيار الحكم البيزنطي، هو الذي أجبر هادريان على الفرار وشق طريقه إلى جنوب إيطاليا، وبعد عبور البحر الأبيض المتوسط، أصبح رئيسًا لدير في نيسيدا، وهي جزيرة خلابة في خليج نابولي.
ومن الواضح -وفقا للكاتب- أن هادريان كان رجلا ذا مكانة عالية وسمعة جيدة، حيث كان يذهب في رحلات دبلوماسية إلى بلاد الغال (فرنسا المعاصرة)، وربما عمل كمترجم من اللغة اليونانية للإمبراطور قسطنطين الثاني خلال زيارته لإيطاليا في عام 663.
يضيف الكاتب أن سمعة هادريان المميزة جعلت البابا فيتاليان يعرض عليه منصب رئيس الأساقفة في بريطانيا، وقد رفض في البداية واقترح رئيس دير نابولي لتولي المهمة، ثم اقترح لاحقا صديقه المقرب ثيودور، وهو راهب من طرطوس (تقع في ولاية مرسين التركية حاليا)، يوناني الأصل، تلقى تعليمه في سوريا وأنطاكية وإديسا.
اعلان
وافق ثيودور على الذهاب إلى إنجلترا، وشغل منصب رئيس أساقفة كانتربري منذ عام 669 حتى وفاته في عام 690، وانضم إليه هادريان بعد عام من توليه المهمة، وقد ساهم الرجلان وفقا للكاتب في وضع أحد أهم برامج التدريس في التاريخ البريطاني.
أسعد أوقات إنجلترا
يؤكد الكاتب أن الراهب "السوري" وصديقه "الليبي" أقاما مؤسسة تعليمية رائدة في مدينة كانتربري، سرعان ما بلغت شهرتها جميع أنحاء أوروبا.
كتب بيدا عام 731 عن مدرسة ثيودور وهادريان قائلا "ذهبا إلى كل مكان وقاما بكل شيء معًا. كانت أسعد الأوقات منذ ظهور اللغة الإنجليزية في بريطانيا لأول مرة".
وفقا للمؤرخ الإنجليزي، سافر هادريان وثيودور أثناء عملهما معا إلى جميع أنحاء إنجلترا، لكنهما عاشا وعملا في مدينة كانتربري، وشيدا هناك مكتبة، وكَتَبا الدراسات، وقدما المحاضرات، ودربا جيلا من الكهنة والإداريين والفنانين والكُتّاب.
وقد ذكر بيدا أن مهارات هادريان اللغوية كانت استثنائية، وهي تظهر بوضوح من خلال مؤلفاته في تعريف المصطلحات ومذكراته التعليمية التي تراوح بين اللغتين اليونانية واللاتينية، بالإضافة إلى الإنجليزية القديمة.
وحسب الكاتب، فقد نجح هادريان وثيودور في إحياء التعليم في إنجلترا بعد أن كانت البلاد أرضًا بلا أي هوية ثقافية منذ عام 597، حيث أحضرا من شمال أفريقيا التي كانت مركزا مسيحيا مهما آنذاك وموطنا لمؤلفين كبار مثل ترتليان وسيبريان، نسخًا من المؤلفات الأفريقية على غرار مخطوطات بريماسيوس الموجودة إلى اليوم في مكتبة بودلي في جامعة أكسفورد.
إرث ثقافي في أوروبا
يذكر الكاتب أن هادريان قدّم أيضًا دروسا في مدينة كانتربري باستخدام أحجيات لاتينية للكاتب الروماني سيمفوسيوس، والذي يُرجح أيضا أن يكون من أصول أفريقية.
وكانت تلك الأحجيات بمثابة ألعاب بسيطة لتعليم الطلاب طرق الاستنباط والتفكير الاستنتاجي، وقد ألهمت طالبا يدعى ألدهيلم لابتكار أحجيات أطول، ومنذ تلك اللحظة صارت الأحجية جزءا أصيلا من الثقافة الإنجليزية.
ويضيف الكاتب أن عددا من المخطوطات المكتشفة حديثا قد تكشف مزيدا من الأسرار عن الإرث الكبير الذي تركه هادريان وثيودور، من مؤلفات لغوية عن اللاتينية واليونانية، وترجمات وكتابات في الدين والطب والفلسفة والتاريخ وكذلك القانون المدني الروماني والشعر والبلاغة.
ومن بين تلك الاكتشافات أجزاء من مخطوط يضم قواعد في اللغة اللاتينية عُثر عليه مؤخرًا في مدينة ريمس (Reims) الفرنسية، ومخطوطة في ميلانو تضم ملاحظات سجلها أحد الطلاب خلال محاضرة قدمها ثيودور وهادريان في مدينة كانتربري، تشرح معنى نصوص الكتاب المقدس، وأسماء الأماكن والمناظر الطبيعية والعادات والنباتات والحيوانات في الشرق الأدنى.
ويقول الكاتب إن نسخا وأجزاء من مؤلفات ثيودور وهادريان انتشرت في جميع أنحاء أوروبا خلال العصور الوسطى، وهو ما جعل كثيرين ينظرون في فترة لاحقة إلى الراهبَيْن باعتبارهما مؤسسي النظام التعليمي في الغرب.
المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية + مواقع إلكترونية