أ.د. عبد الله السيد (*)
في الحلقة الأولى من هذا المدون قدمت إثارات عجلى؛ دافعها الأول ما قرأته عند بعض أصدقائي من تبسيط موضوع "محاربة الفساد". واليوم أثير في هذه الحلقة نبشا خفيفا للسياقات الحافة بهذا الموضوع، انطلاقا من التسليم بأنه لا خلاف في أن الفساد يمثل الداء الذي ينخر كيان مجتمعنا على جميع المستويات، وأنه بات، بكل أسف، سلوكا فرديا، وقيمة اجتماعية.
ولعل السياق الأول الذي ينبغي إثارته هنا هو السياق السياسي الخاص؛ فقد تضمن برنامج فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إشارات مكتوبة، وتصريحات خلال الحملة بأنه لن يتهاون في محاربة الفساد. وكان الرئيس السابق الذي خاض الحملة إلى جانبه، وكل المسؤولين الذين شملهم ملف اللجنة البرلمانية يقولون مثل ذلك؛ بل يذهبون إلى أن عشريتهم تميزت بمحاربة الفساد.
في حين كانت أحزاب المعارضة والمرشحون الآخرون يحملون شعار "عشرية الجمر"؛ متهمين الرئيس السابق وأعوانه بنهب ممتلكات الشعب، والإثراء بغير حق.
وحين تسلم الرئيس مهامه بدأ تنفيذ برنامجه المعلن إلى جانب إستراتيجية، يبدو أنه أسرها في نفسه أثناء الحملة، وهي أولوية في تفكيره، وأعني بها طريقة تعامله مع الطيف السياسي المعارض؛ فالتقى بأحزاب المعارضة والمرشحين المنافسين، وألغى متابعة المعارضين من رجال الأعمال والسياسيين؛ الأمر الذي فتح مجالا لتغيير المواقع السياسية، وآذن بالخلاف بين رفقاء الدرب، وخلان الأمس؛ فانفجر التجاذب داخل الحزب الحاكم، بعد إعلان كتلة الأغلبية في الجمعية الوطنية انضمامها إلى اختيارات الرئيس المنتخب، واستجابت الأغلبية البرلمانية لمطلب المعارضة في التحقيق في تسيير العشرية بعد رجوع الرئيس السابق وتحركه باتجاه الحزب.
الآن بات الرئيس السابق واثنان، على الأقل، من وزرائه الأول، وبعض وزرائه ومديريه، وأفراد عائلته، وربما بعض رجال الأعمال في طريقهم إلى القضاء على مستوى شرطة الجرائم الاقتصادية تحت رعاية النيابة؛ بناء على تقرير اللجنة البرلمانية، وسط تجاذب سياسي، مؤشر برصته قد لا يكون ثابتا، وستذكيه، بكل تأكيد، مرافعات عدد كبير من المحامين الوطنيين والأجانب؛ يفتش كل واحد منهم عن تبرير حجته في مدونة النصوص القانونية والدستورية التي كتبناها على عجل بلغتين مختلفتين؛ الأمر الذي يفتح مجالات كبيرة للتأويل.
يضاف إلى هذه الصورة المختصرة عن السياق الخاص كون المتهمين هم من وقعوا، باسم الدولة، اتفاقيات الإنتاج، والتنقيب، والصيد، مع الشركاء الاقتصاديين، وأننا على أعتاب أن نكون بلدا مصدرا للغاز وموارد منجمية أخرى؛ وسط تنافس محموم بين الشركات العابرة للقارات حاملة معها نفوذ الدول الاستعمارية، وتنافسها على موارد أمثالنا من الدول، وأننا الآن ضمن منطقة من مناطق العالم المائجة بالاضطراب والفوضى.
فعلى حدودنا الشمالية هناك السلاح وهناك الخوف من أن تنهار الهدنة الهشة ويشتعل النزاع المسلح بين الصحراويين والجيش المغربي، وعلى حدودنا الغربية تتحرك الجماعات الجهادية والأزوادية، وفي الدول المجاورة لنا أو القريبة منا كالجزائر، ومالي، والمغرب، والسنغال، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو، وليبيا، وتنوس هناك بؤر لعدم الاستقرار، أو للحروب الأهلية، دون أن أنسى جماعات الاتجار بالمخدرات والهجرة غير الشرعية.
في هذا المشهد نفتتح، على بركة الله، ملف الفساد في السنة الأولى من المأمورية الأولى لفخامة الرئيس، وسط توقع جماهيري كبير باسترداد الأموال المنهوبة، ومعاقبة المفسدين درء لمن تسول له نفسه في المستقبل مد يده إلى المال العام، وهذا طموح كبير وعمل جبار لا ينبغي أن تثبط عنه العزائم.
لكن يقال إن "الشفيق مولع بسوء الظن"، وإن ذا "العقل يشقى بعقله" كلما استقصى أبعاد الممكن، وتدبر العوائق والعراقيل، وفكر في العدة والعتاد، وجال بفكره نحو العدو (الفساد) يستقصي مكامن قوته، ونقاط ضعفه. وهنا لا بد أن تزداد ضربات قلبه، ويتذكر دفعة واحدة هزائم الأمة كلها: هزائمها في مواجهة عدوها الصهيوني المشترك، وهزائمها في بناء قاعدة تعليمية صحيحة، وهزائمها في خلق تنمية تستقطب ملايين العاطلين عن العمل... وبعابرة موجزة هزائمها في محاربة الفساد والمفسدين.
ورأفة بالقارئ المتحمس، وإسهاما في هذه المعركة أسجل في هذه الحلقة الإيضاحات التالية:
أولا: المفسد ضابط عسكري يحسن التخطيط والتدبر وإن لم يلبس الزي العسكري؛ لذلك فهو يحتاط لفساده بهالة من الضبط القانوني والتوثيقي، يستحيل معها اقتفاء آثار الفساد. اللهم إذا تاب وقرر الاعتراف بجرائمه، أو استعاد المحققون معه أساليب التعذيب التي كانت تمارس ضد السياسيين في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته؛ فتجبرهم على الاعتراف بما اقترفوه وما لم يقترفوه تحت وطأة الألم.
ثانيا: المفسد يمكن أن يحلف أنه لم يمس المال العام دون حنث؛ لأن العائدات الكبرى التي يحصل عليها هي هبات وهدايا تقدم إليه في المنزل أو في الحساب مقابل تسهيل هذا الإجراء أو ذاك، أو خدمة سياسة هذه الدولة أو تلك من دول النفوذ الأجنبي.
ثالثا: علاقات المفسد وإمكانياته مهما كانت محدودة أقل بكثير من قيمه، ووازعه الديني؛ لذلك لن يدخر جهدا في سبيل البقاء أثناء معركة استئصاله.
رابعا: المفسدون ملة واحدة لذلك ينبغي أن لا نتصور خطأ أنه بالإمكان التمييز بينهم مرحليا بمحاربة بعضهم بالبعض.
(يتواصل في الحلقة القادمة)
(*) مثقف وأكاديمي موريتاني كبير ومدير بيت الشعر في نواكشوط