تمر أميركا اليوم بمرحلة مفصلية، وكنت أكتب دوما عن فترة خمسينات وستينات القرن الماضي، وأقول إن أميركا كانت تعيش في حرب مع نفسها.
ولعلني أعيد ذلك اليوم، ونحن نتابع ما يجري، فقضية السود والبيض في أميركا ليست وليدة اليوم، بل لها جذور عميقة، تعود إلى مرحلة تأسيس أميركا، على يد الإباء المؤسسين، قبل نحو قرنين ونصف القرن، عندما تمت كتابة الدستور، الذي ركزّ على الحريات والحقوق، في الوقت الذي كانت البواخر تمخر عباب البحار، محملة بالمزيد من الأفارقة إلى العالم الجديد، ليكونوا أرقّاء، يعملون في مزارع الإقطاعيين البيض ومنازلهم، والحريات التي تحدث عنها الدستور، كانت حريات الرجل الأبيض، أما السكان الأصليون والسود، فلا علاقة لهم بالحرية التي كفلها الدستور، بل لهم عكس ذلك، أي الاضطهاد والعيش في ظروف مأساوية، واستمر الأمر على هذه الحال أكثر من قرن، عندما جاء رئيس استثنائي، أي إبراهام لينكولن، وقرر إلغاء الرِّق، وتم له ذلك، بعد حرب أهلية طاحنة ودامية.
بعد هزيمة الانفصاليين العنصريين في الجنوب الأميركي، عام 1865، وإعادة الجنوب إلى الدولة الأم في واشنطن، تأسست منظمة الكلو كلس كلان، وهي منظمة عنصرية، تخصّصت في ملاحقة السود، والتنكيل بهم، وكان لها أنصار في كل قطاعات الحكومة، أي الشرطة والمحاكم وغيرهما، وعانى السود بطش هذه المنظمة عقودا طويلة، خصوصا أنه تم تحريرهم من العبودية، لكنهم ظلوا مواطنين من الدرجة الثانية بحكم القانون، فقد كانت هناك قوانين عنصرية صارمة، للفصل بين البيض والسود، في المدارس والمواصلات، وكل مكان يجتمع فيه الناس، وبعد نحو قرن من الفصل العنصري، كان هناك حراك قوي من السود، وأحداث عنف جسيمة، جعلت الحكومة الفيدرالية تدرك أنه لابد من عمل ما، قبل أن تنفجر الأوضاع وتتحول الأمور للأسوأ.
ومثلما جاء الرئيس لينكولن عام 1860 وصنع التاريخ، انتخبت أميركا، بعد ذلك بقرن كامل، عام 1960، رئيسا شابا اسمه جون كينيدي، وكان ديمقراطيا ذا كاريزما مبهرة، حمل معه أجندات إنسانية، ضمنها العمل على تحقيق العدل والمساواة، ونصرة الفقراء، وقرر إنقاذ أميركا من انفجار وشيك بين السود والبيض، لكنه اغتيل بطريقة مأسأوية، في مدينة دالاس، بولاية تكساس، عام 1963، ورحل وهو في ريعان شبابه، ولا تزال قصة اغتياله لغزا يستعصي على الفهم، رغم مرور أكثر من نصف قرن عليها، وآلاف الكتب والأفلام، التي تحدثت عنه، وخلفه نائبه، الرئيس ليندون جانسون، الذي لم يكن بإنسانية كينيدي على الإطلاق، لكنه سياسي من العيار الثقيل، استطاع مواصلة مشروع كينيدي لتحقيق العدل والمساواة بين البيض والسود، واستطاع تحقيق المعجزة، وذلك بإصدار قانون إلغاء الفصل العنصري، والمساواة بين البيض والسود عام 1964.
ورغم صدور هذا القانون التاريخي، فإن العنصرية لم تنته، فقد شهد نصف القرن الماضي أحداثا عنصرية مشينة يصعب حصرها، وإن كان من أبرزها حادثة ضرب مجموعة من الشرطة البيض لمواطن أسود، اسمه رودني كنج، في فترة الرئيس جورج بوش الأب عام 1991، التي شهدت بعدها أميركا أحداث شغب، أسوأ مما نشاهده هذه الأيام، وتبعت تلك الحادثة العنصرية حوادث مماثلة، آخرها القصة التي نشهد تبعاتها حاليا.
ورغم مرور كل هذه السنوات، ورغم قيام حرب أهلية وإلغاء الرِّق، ورغم صدور قانون تاريخي للمساواة بين السود والبيض، ورغم انتخاب أميركا لرئيس أسود لأول مرة في تاريخها، فإن قضية العنصرية والعلاقات المتوترة بين السود والبيض في أميركا لا تزال حاضرة، فهي قضية اجتماعية معقدة، ذات جذور تاريخية، وستظل تطل برأسها بين الحين والآخر، كما نشهد هذه الأيام، إذ يبدو أن القوانين قادرة على معالجة الكثير من إفرازاتها، لكنها على ما يبدو لن تستطيع اقتلاع جذورها، لأنها ببساطة قضية اجتماعية معقدّة، لها مثيلها في معظم المجتمعات الإنسانية.