وليد فكري
كاتب وباحث في مجال التاريخ
الكذب على التاريخ عادةً ما يثير الغضب، إلا أن بعض الأكاذيب تستحضر من الضحك أكثر مما تستفز من الغضب.
من نماذج الأكاذيب التاريخية المضحكة ذلك الزور الذي أتى به أحد أبرز أتباع العثمانيون الجدد، ألا وهو الإخواني علي الصلابي، الذي لا أعرف متى حُسِبَ على أهل التاريخ مؤرخًا!.
منذ سنوات أصدر الصلابي كتابًا بعنوان "الدولة العثمانية.. عوامل النهوض وأسباب السقوط"، الكتاب عبارة عن صلاة تعظيم وتمجيد لآل عثمان ودولتهم، صاغها صاحب الكتاب بأسلوبه الانتقائي الشهير لما يروق له من معلومات وتحليلات بغض النظر عن نصيبها من الصحة أو الخطأ.. والصراحة أنني كمشتغل بالتاريخ ومُطَلع على مختلف الكتابات عن الدولة العثمانية سواء المنتقدة لها أو تلك المدافعة عنها، أستطيع أن أقول بكل ثقة أن كتاب "الدولة العثمانية" للصلابي هو أسوأ كتب التاريخ العثماني وأكثرها ركاكة وسطحية واستخفافًا بالعقول!.
وعودة ل"الأكذوبة المضحكة".. ففي سياق الحديث عن حروب الدولة العثمانية مع محمد علي باشا، قرر علي الصلابي أن يتهم محمد علي باشا بالماسونية والتآمر على الإسلام والمسلمين!!.
تفسير الهجوم على محمد علي:
عندما تكون واليًا فذًا استطعت أن تنتشل بلدًا عريقًا كمصر من براثن الجهل والتخلف والبؤس الذي حرص المحتل العثماني على غرسه فيه، بل وبلغت قوتك أن تحديت المحتل نفسه وغزوته في عقر داره وأذللت ناصيته، وأسست لنفسك ولأسرتك دولة قوية لها ثقل دولي محترم.. فمن الطبيعي أن يبغضك العثمانيون القدامى باعتبار أنك قد "كشفت فشلهم" بنجاحك وتركت على وجوههم أثر صفعة رنانة، ومن الطبيعي كذلك أن يرث العثمانيون الجدد ذلك البغض.
ولأن اصنطاع العملاء لعبة عثمانية قديمة، فعلها جدهم سليم باصطناعه خاير بك/خاين بك للغزو بالسلاح، فإن العثماني الجديد قد تعلم الدرس فاصطنع لنفسه عملاء جدد يمثلون الغزو بالفكر الفاسد.. من هؤلاء أولئك الذين لعبوا ويلعبون دور "الطابور الخامس" لسياسات بعض "الإمبراطورية العثمانية" المزعومة، والتي لا تكتفي بالعدوان على العرب بالسلاح والمرتزقة ودعم الإرهاب، وإنما تحاول إفساد تاريخهم باستعمال أمثال الصلابي من المدلسين والمزورين للتاريخ!.
ولكي يعجب الخادم مخدومه، ويحظى الصبي برضا أساطينه، فإنه من الطبيعي أن يحاول كيل اتهامات كاذبة بحق شخصية تاريخية بارزة كمحمد علي باشا، ارتبطت بتحرر مصر من ربقة الاحتلال العثماني الغاشم.
ولينتبه القاريء، فإني لا أنكر على الصلابي أن ينتقد محمد علي، فالشخص التاريخي هو في النهاية إنسان عرضة للنقد السلبي والإيجابي، وسواء اتفقنا مع هذا النقد أو اختلفنا فإن علينا احترام الجهد العلمي المبذول في ذلك وكذلك احترام وجهات النظر، ولكن هذا الاحترام يقتصر فقط على ما يمكن وصفه ب"الاجتهاد العلمي" وليس مجرد قذف الاتهامات الهزلية بغير أسانيد ولا حتى قرائن تستحق النظر.
ولنا مثالًا في كلا من دكتور خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا" الذي انتقد فيه محمد علي بقسوة شديدة، أو الأستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "العثمانيون" الذي دافع فيه عن الدولة العثمانية، فكلاهما قدم أدلة علمية لوجهة نظره، وتحليلًا علميًا موضوعيًا يمكننا أن نختلف معه ولكننا لا نستطيع ألا نقدره ونثمنه..
أما الصلابي فلم يقم بأي من ذلك، بل قرر أن ينتقي تهمة هزلية فقط لأن لها "بريقًا خاصًا" عند الإسلاميين وبسطاء المتدينين هي "الماسونية".
"أدلة" ماسونية محمد علي:
يبدأ الصلابي إبهاره لنا بالقول بأن شابًا حديث الخبرة كمحمد علي باشا لا يعقل أن يصل للحكم بهذه السهولة إلا لو كان مدعومًا من قوة كبيرة.. ويضيف "تشير كثير من الأدلة أن هذه القوة هي الحركة الماسونية"، ولا يتعطف بأن يذكر بعضًا من هذه ال"كثير من الأدلة"!.
أي أن مجرد الصعود السريع لرجل معروف بالدهاء والتخطيط لأعلى المناصب هو مجرد سبب منطقي للشك بأنه مدعوم من "قوة خفية".. فيما يبدو أن الصلابي لم يقرأ سيّر حكام تميزوا بالصعود السريع كأحمد بن طولون في مصر والمنصور بن أبي عامر في الأندلس أو الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق وغيرهم، أم لعله يتهمهم بالماسونية هم أيضًا؟.
والصلابي يبدي الدهشة من سرعة تقلب أحوال الجند الألباني وانقلابهم على قادتهم وشغبهم في المطالبة برواتبهم، ويعتبر أن هذا من أدلة وجود قوة خفية تدعم محمد علي.. وكأنما "شغب الجند لطلب الرواتب" لم يكن نمطًا معروفًا في الدولة العثمانية وولاياتها بل في إسطنبول ذاتها!.
ويحاول الصلابي القيام بمناورة تاريخية لربط محمد علي بالماسونية، فهو يقول أن نابوليون كان ماسونيًا والدليل أنه عندما غزا مصر خاطب المصريين بأنه لا يرى فرقًا بين الناس إلا بالفضائل والعقل، ثم أُسِسَ المحفل الماسوني في عهد كليبر، وارتبط الفرنسيون بالشيخ حسن العطار الذي كان يزور المجمع العلمي، ثم في عهد محمد علي باشا ربطته علاقة قوية بالعطار.. إذن فالنتيجة: محمد علي ماسوني! يا للعبقرية!.
هلا أخبر أحدهم الرجل أن الحديث عن "مساواة الناس وتميزهم بالفضائل والعقل" هو من قبيل دعاية وشعارات الثورة الفرنسية التي ينتسب لها نابوليون؟ ما الذي ينتظره إذن منه في خطابه لأهل مصر؟ أن يقول لهم "أنتم رعاع ونحن أسيادكم ولنا الفضيلة عليكم؟" بالتأكيد سيحدثهم عن المساواة والفضيلة والعقل.. ثم ألم يدعي نابوليون أنه مسلم ويحترم الإسلام والمسلمين؟ لماذا قام الصلابي باجتزاء خطابه الدعائي لمجرد خدمة نظريته "الماسونية"؟.
وارتباط الشيخ العطار بالمجمع العلمي كيف يعتبر دليلًا على ماسونيته؟ ثم ألم يرتبط الجبرتي نفسه-والذي يستشهد الصلابي في كتابه به لتدعيم ذمه محمد علي باشا-بالمجمع العلمي؟ فهل كان الجبرتي على نفس الأساس ماسونيًا؟.
ويضيف الصلابي "وتوحي بعض الدلائل على أن الفرنسيين قد نجحوا في ضم بعض المصريين للمحفل الماسوني"
ومرة ثانية لا يقدم لنا بعضًا من هذه "الدلائل" التي يتشدق بها!.
ويردف "كما أن تطور الأحداث يشير إلى تشبع محمد علي بالأفكار الماسونية".. حسنًا.. هلا تفضل الدكتور علي الصلابي بعرض بعضًا من هذه الأحداث التي تشير؟ أم أنها ك"الدلائل" المزعومة من "الغوامض" التي لا تتبين إلا لأهل التَكَشُف؟ أم لعله يعتقد أن القاريء قبل أن يمسك بكتابه يقسم على السيف والمصحف أن يسمع ويطيع لصاحب هذا الكتاب فإذا قال "توجد دلائل" قال "آمين"؟.
ويقول كذلك بأن المحفل الماسوني في مصر قد أجبر فرنسا أن تدعم محمد علي باشا، وبالتالي فإن محمد علي قد قام ببناء جيش قوي وأسطول كبير وقناطر للري فقط لضرب الخلافة العثمانية، وأنه جزء من مخط صليبي الغرض منه ضرب المسلمين وأن هذا المخطط جعل من تجربة محمد علي قدوة لمصطفى كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر في "محاربة الشريعة"... ما الذي أتى بأتاتورك وعبد الناصر في سياق الحديث عن محمد علي؟ لا أعرف الحقيقة.. ولكن ربما رأى الصلابي أن ثمة مناسبة لتفريغ غضبه الإخواني العتيد فقرر انتهازها!.
بل ويزيد الصلابي فيتهم محمد علي بأنه إذ أرسل البعثات الدراسية للخارج فإنه كان ينفذ جزءًا من مخطط فرنسا الماسوني الصليبي لضرب الإسلام.. بل ويعتبر أن من "الاتهامات" الموجهة لمحمد علي باشا أنه قد "فتح باب الدعوة إلى الوطنية والقومية".. وكأنما هذه جريمة في منطق علي الصلابي وفكره! (ملاحظة: الحركة الصليبية حركة دينية متطرفة بينما الماسونية حسب اتهام الصلابي حركة لا دينية.. ومع ذلك فهو يربطهما معًا في مزيج يليق باللامنطق الذي تنطلق منه كلماته).
ومن "جرائم" محمد علي في صحيفة اتهامات الصلابي له أنه قد أحاط نفسه ببطانة من "نصارى الروم والأرمن وكتبة من الأقباط واليهود".. وكأن هذه نقيصة أو جريمة.. هلا أبلغ بعضكم الصلابي أن يقرأ عن دور غير المسلمين في بلاط الخلفاء والسلاطين في الدول الإسلامية المختلفة أموية وعباسية وأندلسية ومملوكية وغيرها؟.
بل ويناقض نفسه-كالعادة-فيدعي من ناحية أن محمد علي كان ألعوبة لبطانته الماسونية المتآمرة على المسلمين وفي نفس الوقت يقدمه كطاغية لا ينفذ إلا رأيه.
ثم ألم يستعن بعض سلاطين سادته العثمانيين برجال من غير المسلمين لتطوير وتقوية الجيش بلغ بعضهم مناصب قيادية فيه؟ بل وبلغ بهم ذلك أن اصطدموا ببعض طبقة الفقهاء؟!.
ثم أنني أتسائل: ما دام الصلابي بهذا النظر الحاد في دهاليز التاريخ، كيف رأى المؤامرة المزعومة لمحمد علي باشا ضد المسلمين والإسلام ولم يرى الخيانة العثمانية بالتحالف مع الروس والسماح لهم بتهديد العاصمة العثمانية ذاتها فقط لتخويف محمد علي؟ أم أنه-الصلابي-من النوع الذي يملك من "مرونة الأمانة والذمة العلمية" ما يكفي ليصرخ محذرًا من برغوث مزعوم بينما يمكن أن يغض البصر عن فيل كامل يمر من تحت أنفه؟!.
ختاما:
الصلابي وكتابه "الدولة العثمانية" هو نموذج ليس للتدليس والكذب والعبث من قِبَل العثمانيون الجدد بالتاريخ فحسب، بل هما كذلك نموذج ل"الخيبة"، فرغم الاحتقار الطبيعي للكذب والتدليس والتزوير كنقائص أخلاقية، إلا أنني كان يمكن أن أحاول إبداء بعض الاحترام ل"اللعبة الحلوة" لمن كان في كذبه بعضًا من "الابتكار" أو "الإبداع".. ولكن هذا الكتاب كان نتاجًا طبيعيًا لاعتناق التوجه العثماني الجديد الذي يبدو من الخارج لامعًا بينما هو من الداخل متهالك كأعجاز نخل خاوية!