د. بدي المرابطي
-1-
بعْدَ زلزال لشبونة وطنجة الشهير سنة 1755 (أو كما يُسمَّى في الاصطلاح الكاثوليكي زلزالَ عيد جميع القديسين: فاتح نوفمبر) الذي هزَّ أيضا كثيراً من مدن الساحل المغربي من الشمال إلى أغادير وقَتلَ عشرات الآلاف (وحدَها المدينة البرتغالية خسرتْ كما يقول المؤرخون أكثر من ثلث سكانها وانهارت معظم مبانيها) والذي كانَ كما هو معروف خلْفَ موجة من النقاشات العلمية والفلسفية في أوربا، في أوج ما تسميه السرديات المدرسية المكرّسَة بعصر الأنوار، كتبَ فولتير قصيدة فلسفية يَطرح فيها ذلك السؤال الذي طالما أرّق النظار والمتكلّمين، عن أي جرْم ارتكبه الأطفال الصغار وهم يموتون في زلزال لشبونة “على الصدور المسحوقة والدامية لأمهاتهم” بينما تواصلُ كبريات العواصم الأوربية تمتّعها ورقصها.
قد لا يكون فولتير أراد تماماً الردّ، كما يُقال تقليدياً، على ثيوديسا ليبنز وقد لا تتضمّن جائحة كورونا إلا مزيداً من الأسئلة القلقة عن الدّلالة القيمية للكوارث في الحياة البشرية، خصوصاً فيما يعني العدلَ كقيمة أزلية. ولكن وباء كورونا وهو يعملُ، عكساً لزلزال لشبونة وطنجة، على مساواة أغلبَ كبريات العواصم في المحنة فإنّه يحاصر ـ على الأقلّ إلى حين ـ بعلامات الاستفهام المصاحبة له ذلك النوعَ من السذاجة التفاؤلية الذي عبّر عنه فولتير نفسه سنوات قليلة بعد الزلزال البرتغالي المغربي في حكايته الفلسفية ” كانديد أو المتفائل”.
فليستْ طبعاً المحنة الكبيرة التي تواجهها البشرية حالياً أولى المحن الكونية التي واجهتْ الإنسانية عبْرَ مسارها الطويل. ولكنها مع ذلك، في جوانب معينة، تبدو غير مسبوقة من منظور ما يرويه التاريخ المدوّن.
-2-
سواء في الحروب الكونية أو في الأوبئة الجائحة أو في أزمات الكساد الاقتصادي كأزمة 1929 لا يبدو أنّ العالم عرفَ شيئا شبيها بحالة التوقّف عن الإنتاج والتبادل تزامنياً في معظم بلدان العالم كما يعرفها حالياً، أيْ التوقف التزامني عن إنتاج أغلب ما لا يمكن تبادله فرضياً وفي الوقت نفسه تضاعف الإنتاج والتبادلات الرقمية.
وممّا يستحقّ الوقّف عنده أن المنظمات الدولية التي أصدرتْ تقارير عن توقعاتها حول الانعكاسات الاقتصادية للأزمة الحالية مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية وهيئتي البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، أعادت عدّة مرات تحيينها لهذه التقارير خلال الشهرين الماضيين لتقدّم مؤشرات استشرافية تزيد تقديراتها في كل تحيين سوءا عن التحيين السابق له.
فمثلا في التقرير الذي أصدره فاتح مايو الجاري معهد بحوث السياسة العمومية التابع للكونغرس الأميركي عن الانعكاسات الاقتصادية لوباء كورونا طغتْ التساؤلات على التوقعات الملموسة وربَطَ التقريرُ استشرافَه بعددِ من الأسئلة التي أبقاها معلّقة دون سيناريوهات قابلة للتوقع، مثل أسئلة ” كم عدد البلدان التي ستصاب بالعدوى وبكم سينخفض نشاطها الاقتصادي وما حجم النشاط الاقتصادي الذي سيتم فقدانه نتيجة تفشي الفيروس إلخ “. وطبعاً يسهبُ هذا التقرير كغيره من التقارير الدولية الصادرة هذه السنة في صعوبة الاستشراف الاقتصادي في ظلّ أوضاع ومؤشرات رقمية يتسارع طفْروياً تغيّرها. وتبقى المقارنة مع أزمة الركود الكبير لسنة 1929 عنصراً مشتركا بين أغلب التقارير. بلْ إنّ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في مراجعةٍ لها لتقديراتها في أواخر مارس الماضي توقّعتْ أن التراجع الذي سيعرفه معدّل النواتج الداخلية في العالم سيجعل هذا المعدّل يخسر ربع حجمه أي بما يتجاوز حتى خسائر أزمة 1929.
بشكلٍ عام فإن هذه التقارير تُجمع على أن الاقتصاد العالمي يشهد حالة سقوط حرّ لم تنجح بعد إجراءات الحكومات المختلفة في مواجهتها بشكل فاعل خصوصاً أنه سقوط حر يحصل في مرحلة بلغتْ فيها الرأسمالية المالية مستوى من التعولم ومن التوكؤ على الشبكية وعلى الفضاء الرقمي الكوني يجعل إشكالياتها تتجاوز تلقائياً ما تسمح به الإجراءات الوطنية المعزولة. بينما دفعتْ مفارقياً الأزمة الحالية عدداً من الحكومات إلى التقوقع في إطارها الوطني كملاذ وإلى اتّباع سياسات انطوائية تهتم أساساً بفضائها الخاص في مواجهة ظواهر عابرة بطبيعتها للحدود.
-3-
أحد سيناريوهات الأمد القريب يفترضُ أن اقتصاديْ الولايات المتحدة والصين قد يستعيدان جزءا معتبراً من حيويتهما خلال السنوات الثلاث القادمة رغم التراجع النسبي للناتج الداخلي العام الصيني ورغم الركود الاستثنائي الذي يعسر أنْ يتخلّص منه اقتصاد الولايات المتحدة خلال السنة الجارية على الأقلّ.
إذا اعتمدنا هذا السيناريو المبني على فرضية عدم ظهور موجة ثانية من الوباء بعد بداية تراجع الأولى في أغلب الدول الصناعية فإنّ أوربا بمقتضاه ستدفع مرحلياً الفاتورة الأكبر. وستجد طبعاً الدول ذات الاقتصادات الصغيرة والهشّة، خصوصا تلك التي ترتبط، مثلا في إفريقيا، بنسبة عالية بالاقتصادات الأوربية صعوباتٍ وجودية بديهية. ولكن من الوارد أيضا أن الإكراهات الاقتصادية الجديدة والسياقات الدولية المحايثة لها سترغم الدول ذات الاقتصادات الصغيرة على تعديلات قد لا تكون هامشية في خياراتها الاستراتيجية الدولية.
هل يكون أيضاً بهذا المعنى الفاعلون الذين فشلوا في تسيير هذه المحنة هم الرابحون السياسيون؟
ليس ذلك مستحيلا تماماً وإن كان التوقع ما زال صعبًا لأسباب بينة بذاتها. فحين يزداد الخوف ويتفاقم الركود الاقتصادي يكون العقل العمومي غالبا أول الضحايا. تسهل هيمنة الإنشائيات السياسية الظلامية على الآراء العامّة وتجد السلطوية فرَصاً استثناية للتلاعب بالقوى العمومية.
ولكن ذلك قد يَصْدُق فقط جزئياً وعلى الأمد القريب. ذلك أنّ التحولات الكبيرة تأخذ دائما وقتا أطول مما يُتخيّل عادة ولكنها ستكون غالبا ثخينة على الأمد المتوسط.
ـ4ـ
منذ مائة سنة حصدتْ الحرب العالمية الأولى أكثر من عشرة ملايين قتيل (وبعض المؤرخين يتحدّث عن ضِعف ذلك الرقم). ثمّ أكملتْ الأنفلونزا الإسبانية المذبحةَ الكونية وقتلتْ حدود خمسين مليون شخص، كأنما يريد الوباء أن يغالب بشراسته شراسةَ البشر وهم يتباهون بدمويتهم ضدّ بعضهم البعض.
جُرِحَ مثلاً الشاعر أبولينير في الحرب الأولى ولكنّه بمجرّد أنْ اعتقد أنّه نجا منها قضتْ عليه الانفلونزا الاسبانية. أما الصعلوك أحمد مبارك فال، القادم من “شمامة” وسينلوي في أقصى المنكب البرزخي، فقد نجا من الحرب وهو في خطوط نارها الأمامية بعد أن حصد فيها الميداليات العسكرية ثم نجا أيضا من الأنفلونزا الاسبانية بلْ فاز سنتين بعد بداية انتشارها بالبطولة العالمية للوزن الثقيل (1922) ولكنّه لم ينج من الميز العنصري الذي سقَطَ ضحيته في نيويورك ثلاث سنوات بعد تتويجه الباريسي.
على كلّ فإنّ لأنفلونزا الإسبانية لم تحطّم الرقم القياسي إلّا مرحلياً. فقد قتَـلَ البشر في الحرب العالمية الثانية أكثر مما قتلتْ الأنفلونزا في ختام الحرب الأولى. ما سماه (ابرتون) في بيانه الأول “الإنسان هذا الحالم النهائي” سيترك مكانه للإنسان هذا القاتل اللانهائي.
هل تعلّمَ البشر من تلك المآسي المتلاحقة؟ لا تبدو إجابة القرن الذي مضى مريحة.
الكاتب ميخائيل نعيمة وجدَ نفسَه دون سابق تخطيط جنبَ أحمد مبارك فال في الخطوط الأمامية لنار الحرب العالمية الأولى. اقتيد باسم التجنيد الإجباري من واشنطن لتجمعه الأقدار في الحدود الفرنسية الألمانية ثمّ البلجيكية مع كثيرين من المعذبين في الأرض. كتبَ مع نهاية الحرب وصية ظلّتْ بصماتها الصامتة والفاجعة معاً، رغم المائة سنة التي مضتْ الآن على كتابتها، تتضاعف :
“أخي ! إنْ ضَجَّ بعدَ الحربِ غَرْبِيٌّ بأعمالِهْ
وقَدَّسَ ذِكْرَ مَنْ ماتوا وعَظَّـّــمَ بَطْشَ أبطالِهْ
فلا تهزجْ لمن سادوا ولا تشمتْ بِمَنْ دَانَا (…)
فقد جَفَّتْ سَوَاقِينا وَهَدَّ الذّلُّ مَأْوَانا (…)
فلا تندبْ فأُذْن الغيرِ لا تُصْغِي لِشَكْوَانَا (…)
أخي ! مَنْ نحنُ ؟
لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ
إذا نِمْنَا، إذا قُمْنَا رِدَانَا الخِزْيُ والعَارُ
لقد خمَّتْ بنا الدنيا كما خمَّتْ بِمَوْتَانَا”.
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل
المصدر: رأي اليوم