
أ.د. عبد الله السيد (*)
حين بالغ الرئيس السوفيتي الأسبق خروتشوف في انتقاد سلفه ستالين، وكان نائبا له، دس له أحد الحضور خلسة سؤالا يقول له فيه: أين كنت؟
فما كان منه إلا أن قرأ السؤال ببرودة أعصاب وسأل عن كاتبه، فلم يجبه أحد، عندها قال كنت حيث أنت الآن...
أسوق هذا لأني قرأت لأصدقاء تدوينات ينقمون من هذا أنه يقول اليوم كلاما مغايرا لكلامه بالأمس، أو أنه سكت البارحة ولا ينبغي أن يتكلم الليلة... والحقيقة أن السياسة فن التكيف مع إكراهات الواقع، ووحدهم عباقرتها من بجيدون لعبة ذلك التكيف، وحتى الشعوب المضطهدة تبني مقاومتها على تلك الظروف؛ بحيث تشفي غليلها في مقاومة الاضطهاد دون أن تصطدم بالفاعل، وهو ما نعته جميس سكوت "بالمقاومة بالحيلة".
لذلك ينبغي أن لا نخلط بين تبديل الدين الذي هو كفر، وبين تغيير المواقف السياسية؛ فحين كان هذا رئيس حزب أو وزيرا اقتضى منه الموقف والسياق أن يقول ما قاله، وحين استقال من وظيفته وأصبح في موقف وسياق مغايرين سيقول كلاما جديدا، وهذا ما يقتضيه العقل والسياسة.
أجل أعرف معالي الأستاذ سيدي محمد ولد محم حين كنا طلابا، وأتابع مواقفه ومرافعاته السياسية والدفاعية بعد ما بلغنا "الشباب"، ومهما اختلفت معه في المواقف والقناعات فسأظل على يقين من رحابة صدره، وسعة اطلاعه، وحسن أخلاقه، وجاذبية منطقه في الدفاع عن آرائه وتوصيل رسالته. وقد زادتني استقالته جهارا للدفاع عن شخص يراه بريئا الإعجاب به.
إن الوطن بحاجة إلى جميع الكفاءات والقدرات ممن لم تدنهم العدالة إدانة تمنعهم من ممارسة هذه الوظيفة أو تلك؛ لذلك على النخبة أن تساعد في النهوض بمجتمعها عن طريق نشر الوعي، ونبذ الأفكار العنصرية، والترفع عن النعرات القبلية والجهوية والفئوية، والاعتراف بالرأي الآخر...
عليها في هذا الفضاء أن تطالب بصيانة الممتلكات العمومية، وترشيدها، ورقابتها، ومعاقبة مختلسيها، وأن تتذكر أن مهمة تنفيذ ذلك منوط بالعدالة التي تحميها نصوص الدستور والقانون؛ تلك النصوص التي أقسم فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على حمايتها؛ وبالتالي فلا داعي لأن تتفرق بنا السبل خارج سبيل المعركة الحقيقية: دعوة الجميع للمشاركة في بناء دولة الإخاء والعدل والمساواة؛ حيث المحاكمة العادلة بدل الانتقام، والبراءة ما لم تثبت الإدانة... وحيث استحضار القيم السامية: التسامح، والدفع بالتي هي أحسن، والإمساك بشعرة التواصل والحوار...
____
(*) مثقف وأكاديمي موريتاني كبير ومدير بيت الشعر في نواكشوط