إعلانات

الفسيلة في قيم العرب النبيلة

سبت, 18/04/2020 - 20:46

 

 

 

المهندس الشيخ ولد حمدي

 (1)

 

(وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** و أعرض عن شتم اللئيم تكرما)

البيت يعزى لكريم العرب حاتم الطائي من سارت باسمه الركبان واشتهرت أخبار كرمه في أقاصي البلدان. ولا غرو أن كانت صفة الكرم أصلا جامعا ورافدا ممدا لكثير من صفات النبل وخصال الفضل؛ ولعلنا نعود إليها في سياق آخر من هذه السلسلة التي نود من خلالها أن نقوم بجولة سياحية في حدائق جميلة وبساتين زاهية أصولها القيم وفروعها الأخلاق وثمارها الفعال الحسنة والآثار الطيبة التي تنفع الناس وتمكث في الأرض وتوجب لأصحابها الذكر الحسن في الدنيا والمثوبة في الأخرى لمن ابتغى بها وجه الله والدار الآخرة؛ ولا شك أن القيم والأخلاق هي قوام الحياة وأساس بقاء الأمم وانسجام المجتمعات البشرية.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وإن القوانين وحدها لا تستطيع ضبط حياة الناس؛ كما أن "التدين" المجافي للأخلاق سلوكا وممارسة هو تدين مجاف "للدين" الذي إنما جاء "متمما لمكارم الأخلاق" ومرسيا لدعائمها ومضفيا عليها "البعد التعبدي" إلى جانب بعدها الاجتماعي والإنساني.

عودة إلى بيت حاتم و هو بيت مشهور وأنا أعتقد أن القيمة الأخلاقية والإنسانية التي يحملها النص الشعري غالبا ما تكون عاملا أساسيا في شهرة النص وسريانه بين الناس كالنار في الهشيم.

وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

أي: أغفر زلة الكريم من الإخوان قولا أو فعلا إبقاء عليه وحفاظا على الود الذي بيننا؛ وأعرض عن مساببة اللئيم تكرما مني وتعاليا عن النزول إلى مستوى لا يليق بي وهذا والله من أنبل النبل وأفضل الفضل ولا زالت العرب تمدح التجاوز عن زلات الإخوان والصبر على جفائهم حفاظا على الود القديم ورعاية لحق الصحبة؛

كما تأنف عن مجاراة السفيه في السب والإساءة وتعرض عنه لا ضعفا وذلا وإنما تكرما وتنزها.

وفي المعنى الأول حكى الأصمعي عن بعض الأعراب: تناس مساوئ الإخوان يدم لك ودهم.

وأوصى بعض الأدباء أخا له فقال: كن للود حافظا وإن لم تجد محافظا؛ وللخل واصلا وإن لم تجد مواصلا؛

و لله در من قال :

إذا ما بدت من صاحب لك زلة *** فكن أنت محتالا لزلته عذرا

أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه *** كأن به عن كل فاحشة وقرا

سليم دواعي الصبر لا باسط أذى *** ولا مانع خيرا ولا قائل هجرا

وللنابغة الذبياني:

ولست بمستبق أخا لا تلمه *** على شعث أي الرجال المهذب؟

و قال آخر :

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه؟

والعجب أن يطلب المرء من غيره ما ليس فيه وأن ينشد كمال الصفات من هو ناقصها؛ فكلنا لو جلس مع نفسه وفتش في خباياها لوجد عنده من العيوب الشيء الكثير وما يحجب عن النفس من عيوبها أكثر ؛فالفضل والنبل أن نعامل الناس جميعا بما نحب أن نعامل به وليس بمنطق المكافأة والمجازاة بالمثل إن أحسنوا إلينا أحسنا إليهم وإن أساؤوا إلينا أسأنا إليهم.

فما أجمل القيمة الثانية : "وأعرض عن شتم اللئيم تكرما"

والتعبير القرآني أشمل وأجمل: {و أعرض عن الجاهلين} {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.

 وينسب للشافعي رحمه الله:

إذا سبني نذل تزايدت رفعة *** وما العيب إلا أن أكون مساببه

ولو لم تكن نفسي علي عزيزة *** لمكنتها من كل نذل تحاربه

فأهم قيمة نستفيدها مما سبق أن نعيش حياتنا بقلب كبير وصدر منشرح يسع الجميع ويتعامل مع كل صنف من أصناف الناس بما يناسبه؛

فالصديق يبقى صديقا وإن زل أو جفا يوما فلا ينبغي أن يمحو ذلك سابق وده أو يسقط حق أخوته؛

ومن الخطإ الكبير والذنب الخطير ما نراه في زماننا من علاقات دهر تتصرم وصداقات عمر تتلاشى وتضمحل بسبب زلات عابرة وخلافات تافهة أو سوء ظن أحيانا فما عاد لأيام الوصال شفاعة ولم يتبق لحسن العهد مكان.

والحق أن الود الحقيقي والود الزائف إنما يتمايزان ويعرفان عند حدوث الهفوات والزلات أو حلول الشدائد و الكربات.

وكل أخ عند الهوينى ملاطف *** ولكنما الإخوان عند الشدائد

وعند الخلاف تظهر أخلاق الرجال.