هزمنا في حزيران! وبدل أن تطيح بنا الهزيمة، أطحنا نحن بسفارة أمريكا في موريتانيا، فحاصرناها بجموع غفيرة من الرجال والنساء حتى تم جلاؤها وقطع العلاقات الدبلوماسية بين بلادنا مع أمريكا وبريطانيا نصرة ودعما للعرب! وبدأ التبرع للمجهود الحربي العربي في بلادنا، وحملة إخراج إسرائيل داحرة وصاغرة من إفريقيا، بقيادة الرئيس المختار رحمه الله!
وفي خضم اندحار الاستعمارين الإنغليزي والفرنسي من المعمورة، وهزائم أمريكا المدوية في الهند الصينية، وعواصف الثورة الثقافية الصينية، وثورة مايو في فرنسا 1968، وصمود ومقاومة العرب ضد الاستعمار والصهيونية، وانتفاضة عمال ازويرات الباسلة، اندلعت الحركة الوطنية الديمقراطية الموريتانية بقيادة الكادحين! وكانت أهدافها الكبرى هي:
- القضاء على الاستعمار والرجعية والعبودية.
- ترسيم اللغة العربية.
- صيانة وتوطيد الوحدة الوطنية وتحقيق الوحدة السياسية عبر سياسة الجبهة الوطنية
- تحقيق الديمقراطية.
ومنذ انطلاقتها والسالكة بنت اسنيد في طليعة الزحف الوطني قائدة في الحركة النسائية الوطنية، وقائدة في لجنة العمل الثوري في مدينة نواكشوط إلى أن تحقق معظم تلك الأهداف وكللت سياسة الوحدة الوطنية بالنجاح في نهاية سنة 1974 حين تم تأميم شركة "ميفرما" وأعلن العفو العام عن السجناء والمطلوبين.. إلى غير ذلك من السياسات الوطنية والاجتماعية.
لم تتوان، ولم يشغلها عيش ولا أهل ولا ولد عن العمل في سبيل الوطن العاني ليل نهار! كنا على اتصال دائم بسبب علاقتي الوثيقة الأبدية بالشاعر الكبير والقائد أحمدو ولد عبد القادر، وبسبب القرابة والجوار. ثم عملنا معا خلال فترة ناهزت سنتين في قيادة لجنة العمل الثوري بمدينة نواكشوط (C.A.R.L) التي تتألف من السادة والسيدات: المصطفى ولد اعبيد الرحمن ممثلا لمنظمة تولوز، لادجي تراورى ممثلا لـ"المشعل" إسلمو ولد باباه (رحمه الله) وفي فترة أخرى محمذن بابه ولد امين ممثلا لاتحاد الطلبة والمتدربين الموريتانيين، ومحمد الحسن ولد لبات ممثلا لمنسقية التلاميذ، ومريم بنت لحويج والسالكه بنت اسنيد تمثلان الحركة النسائية، وكنت أمثل حزب الكادحين!
لم يكن الشباب الوطني الذي كُنَّاهُ يومئذ يهتم بالكسب أو الوظيفة، ولا حتى بالدراسة أو ملذات الحياة! بل كان اهتمامه منصبا على تحقيق الهدف الوطني المقدس وإنقاذ موريتانيا وشعبها من الاستعمار وأعوانه ومن عوامل التخلف التي تجتاحه!
كانت السالكة خلال تلك المرحلة في أوضاع صحية صعبة. ومع ذلك، لم يسجل عليها تخلف عن اجتماع أو نشاط إلا نادرا جدا! ولم تستهوها هي ورفيقاتها زينة ولا ثوب ولا موضة! فأحمر شفاههن العلم، ودهانهن البراءة، وطيبهن الخلق، ولباسهن التقوى، وعملهن النضال!
ذات يوم عرَّض الواشون بإحداهن في مجلس الشيخ الجليل والعالم الفاضل والباحث المؤرخ أحمد سالم بن باگا فقال: لو كانت توجد صيغة مدح وتزكية أبلغ من {وإنك لعلى خلق عظيم} لقلتها عنهن وعنهم!
لقد عرفت السالكه السجون وهي مرضع، وعرفتها معها رضيعتها الصغيرة يومئذ خديجة، الكبيرة الآن سنا ومعنى، فلم تتململ ولم تتبرم ولم تشكُ، ولم ينل منها السجن أو تتضعضع أمام العدو!
وخديجة في سجنها ** تمتص أثداء الحراب
الأم والرفاق في إضراب
يتمردون ويرفضون
الهون في ظل العذاب
ويقبلون أشعة التحرير
من خلف الضباب!
نزلت بالسجن المدني هي وصغيرتها يوم كان مختلطا، وتقاسمت إحدى زنزانات معتقل بيله سيئ الصيت مع السيدة ماري تراوري زوجة المناضل لادجي تراوى، غير بعيد من زنزانة يتقاسمها الشاعر والقائد أبو خديجة مع رفاق من بينهم السيدان الدَّيْ ولد اعبيدنا ومحمد ولد حناني، الذي رأس مثله لاحقا المحكمة العليا؛ وسفير موريتانيا الحالي بجنوب إفريقيا.
نعم. لقد عاشت موريتانيا قبل نصر 1974 وتصالحها مع نفسها وانعتاقها، سبعا شدادا عجافا جرت خلالها مواجهات كسر عظم قاسية بين الحركة الوطنية الديمقراطية (الكادحين) ونظام حزب الشعب؛ وخاصة يمينه الرجعي المتعنت، وثَّق الشاعر أحمدو ولد عبد القادر بعض ملامحها يومئذ في قصيدته رسالة السجين التي نقتطف منها ما يلي:
يا رفيقي تحية من دمـــائي ** وســــلاما معبرا عن وفائي
لم أزل بعدكم رهـين قيودي ** في ظـلام المنازل الخرساء
مدركا أن واجبي واختياري ** يتــــنافى وصالح الأعـــداء
لن أخون العهود مهما أطالوا ** في المنافي أو في السجون ثوائي
ها هنا ها هنا يعــيش رجال ** من بني مورتان أرض الإباء
من وراء الزجاج سدا منيعا ** تتعالى قـــرونه في الفضاء
من وراء السياج وسْطَ جحور ** حفــرتها عناكب الظلماء
يتـــــــــلقون للــــعذاب دواما ** ودواما يُهْــدى لهم بسخاء
قَلَّ منهم من لا تُرى بين جنبيـ**ـه سطور من أحرف حمقاء
شاهدات أن العدالة ليست ** ذات شأن في مذهب الجهلاء.
***
أنظر الحاضر الكئيب المغطى ** بضباب من أدمع البؤساء
فأرى في الرماد جمرا دفينا ** وأرى في الدجى بذور الضياء
وابتسام الربيع يولد مهـــما ** تعب الكـــون من دموع الشتاء.
وبانتصار سياسة الوحدة الوطنية انتهت مرحلة من النضال الوطني، وبدأت أخرى أكثر تعقيدا، وأصعب مراسا، تحقق فيها للوطن والشعب معظم أهدافهما المرحلية في ظل الجبهة لوطنية، دون أن يجني الكادحون شيئا لأنفسهم.
ولكن حرب الصحراء وانقلاب يوليو - كما ذكرت في بداية هذا التأبين - عصفا بكل شيء، وجاءا على الأخضر واليابس، فرجع البلد أسفل سافلين!
عجبا للنجوم فيها ضياء ** وصفاء وللمدى دوران
كلما سُطرت معالم خير ** حطمتها الأقزام والغيلان.
ودارت الأيام! وبدأت حقب أخرى في بلادنا وفي العالم! فانهار المعسكر الشرقي، وهيمن الغرب الاستعماري الهمجي! وظهرت مجتمعات و"قيم" و"سنن" ومعايير غير التى كانت سائدة، وأصبحت الخيانة مجرد وجهة نظر حسبما تنبأ غسان كنفاني.. وصار هم أولي الأمر طمس الماضي وأن يكونوا هم بداية و"نهاية التاريخ".. ولكن هيهات!
فلقد ظلت السالكه بنت اسنيد ومدرستها وجيلها، كل من موقعه، في الأعالي، رغم العسف والقمع والتهميش والحرمان والجحود وقلة ما في اليد! ولا غرو!
وإن أصدق تعبير عن ذلك لهو مجلس عزائها، حين خرج في أيامه الشعب الموريتاني الذي لا ينسى، بجميع مكوناته وأطيافه.. بقضه وقضيضه:
بحر من النظرات الحور ضارعة ** تود لو أنها بالروح تفديها
تحاور الملأ الأعلى على وجل ** فتنهمي رحمات منه ترضيها.
وهذا مثل آخر من مكان آخر: عندما وقع الانقلاب على ثورة فاتح نوفمبر 1954 لم تستطع سياسات الغدر والقهر والإذلال والطمر التي حدثنا عنها كل من حيدر حيدر وأحلام مستغانمي في روايتيهما الرائعتين "وليمة لأعشاب البحر" و"ذاكرة جسد" محو وطمس أبطال الثورة، فظل بن بله وجميلة بوحيرد وأقرانهما أيقونات خالدة في ضمير ووجدان الشعب الجزائري والأمة العربية وأحرار العالم إلى الأبد، وذهب الزبد جفاء!
فرحم الله المناضلة والقائدة والمصلحة والإعلامية والأديبة والأم والإنسانة الأستاذة السالكة بنت اسنيد رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته، وبارك في أهل بيتها وذويها، وألهمهم الصبر والسلوان. إنه سميع مجيب.