د. عبد الله السيد (*)
تحتاج الدول الناشئة، مثلنا، إلى العناية أكثر بتثبيت كيانها المادي والمعنوي لتكون بديلا عن التشكلات الاجتماعية السابقة على وجودها، المنافسة لدورها، الضارة، أحيانا، بأمنها واستقرارها.
وبالرغم من محاولات دولة الاستقلال عن طريق سن القوانين والنظم، والتدرج في الفعل السياسي من التعددية إلى المركزية فإن الكيانات التقليدية ظلت قوية، عصية على التغيير؛ لولا أن القدر أصابها في الصميم، حين ضرب الجفاف المنطقة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وخلال الثمانينيات منه، فاهتزت البنية الاجتماعية التقليدية على مستويات عديدة:
- فقد وجد "السيد" و"المسود" و"الرجل" و"المرأة" في مجتمع المدينة الذي تشرف الدولة على تنظيمه مسرحا للمساواة في الفرص أكثر من مسرح "الحي" الذي توجهه أعراف القبيلة.
- كان للنخب السياسية، على تواضع إمكانياتها، ووعيها، ومحاربتها من هياكل الحزب القائم وشرطته، دور كبير في احتضان الوافدين للمدينة في مدارس لمحو الأمية والتأهيل للمشاركة في مسابقات التمهين، وللانخراط في البنيات التنظيمية السرية دون تمييز بين جنس أو لون.
وحين بدأت النخب السياسية تنشئ كيانات سرية قوية انفتح النظام السياسي عليها فاستطاع الحزب الحاكم احتواء طوائف منها قبيل حرب الصحراء التي أسفرت عن حكم الجيش؛ بالاعتماد حينا على هذه النخبة أو تلك من نخب المشهد السياسي، أو بإذكاء الصراع الاجتماعي التقليدي بين جهات المجتمع، ومكونات القبائل حينا؛ خاصة مع اعتماد تنظيم "هياكل تهذيب الجماهير"، والانفتاح على الانتخابات المحلية سنة 1986، ثم الدخول في التعددية السياسية بعد إقرار دستور 1991، وما تلا ذلك من أحداث كان ظاهرها قوة الدولة، وباطنها استفحال القبيلة، والجهة، والفئة، والقومية عن طريق الاستقلال السيء لها من قبل الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة، وقد بلغ السيل الزبى في الانتخابات الرئاسية الماضية.
لذلك أرى تثمين تعميم وزارة الداخلية بمنع الاجتماعات على أسس قبلبية، بل من المفيد أن تمنع كذلك على أسس فئوية أو عرقية ضيقة، وأن يشفع ذلك بحضور الدولة في المجلات التي تكون سببا لهذه الاجتماعات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: ضرورة تعميم التأمين الصحي ليشمل جميع المواطنين، وحتى إن أمكن جميع المقيمين إقامة شرعية على التراب الموريتاني... فبسبب انعدام التأمين الصحي تجتمع القبيلة لتجمع لمرضاها من الضعفاء ما يتعالجون به داخليا وخارجيا؛ خاصة أن بعض المستشفيات العمومية لا تقبل شهادة الضمان التي تمنحها وزارة الشؤون الاجتماعية للفقراء.
ثانيا: النظر في تنظيم التأمين ضد الغير الذي تحول، منذ القضاء على شركة التأمين الوطني، إلى مجرد امتياز يفرض بموجبه لاشخاص قلة أن يأخذوا ضريبة كبيرة على كل مالك سيارة دون القيام بخدمة ظاهرة مقابل ذلك. وتكون النتيجة التمكين للقبيلة للتكفل بدية ميت حادث السير وعلاج جريحه في غياب كامل للدولة و"لشركات التأمين".
ثالثا: اعتماد مسطرة واضحة وشفافة ومقنعة في إسناد الوظائف والامتيازات والجوائز والصفقات والرخص ذات المردودية المادية على أسس بعيدة عن المحاصصات القبلية والجهوية والفئوية والعرقية والنوعية؛ تجعل الجميع يشعر أنه امام دولة العدالة والقانون.
رابعا: تكفل الدولة بضحايا التهميش والتمييز والغبن بوضع آلية سريعة تضمن لهم التعليم والصحة والتوظيف والمساواة؛ بصورة تنسيهم أو جاع الماضي، وضغائنه.
وأعتقد أن برنامج "تعهداتي" لفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، والجهود التي قام بها حتى الآن في حوار الفرقاء، وإقناع الشركاء، والعمل الذي تضطلع به الحكومة بتنسيق من معالي الوزير الأول المهندس إسماعيل ولد بده ولد الشيخ سيديا... كل ذلك، مع ما حبانا الله به من موارد اقتصادية، كفيل ببلوغنا هذه الأهداف إذا ما صدقت النيات، وتآزر الجميع لبناء دولة العدالة والمساواة؛ معتمدين نهج الحوار البناء، حريصين على التسامح، مقتنعين أن موريتانيا لجميع مواطنيها، أمنها أمنهم واستقرارها استقرارهم، ورقيها رقيهم.
(*) مثقف وأكاديمي موريتاني كبير ومدير بيت الشعر في نواكشوط