نواكشوط - الصحراء:
ألقى الأستاذ محمد فال ولد بلال رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات في موريتانيا كلمة في أعمال مؤتمر الدول الأعضاء في المنظمة العربية للإدارات الانتخابية الذي نظم في الأردن.
وينعقد هذا المؤتمر تحت شعار: "المؤتمر الانتخابي الإقليمي الأول" فيما جاءت كلمة ولد بلال تحت عنوان: التناوب على السلطة عبر الاقتراع من منظور التجربة الموريتانية.
وفيما يلي نص الكلمة:
من الناحية اللغوية يعني التناوب على السلطة "انتقالها من شخص لآخر، أو من جماعة إلى أخرى". ويُقْصدُ بمعناهُ الاصطلاحي "آليات ديمقراطية تسمح لقوَتَيْن سياسيّتيْن أو شخصين بالتداول على السلطة بعد الاحتكام إلى الشعب عن طريق انتخابات حرّة ونزيهة، وبمُراقبة هيئة محايدة".
وبهذا المعنى، تبدو عملية تداول السلطة مُسْتحيلة في ظل الأنظمة الديكتاتورية والعسكرية، إذ لا تقبل السلطة الحاكمة فيها التخلي عنها مطلقاً لأسباب ومبررات عدة. أمّا في ظلّ الأنظمة الديمقراطية، فإن عملية تداول السلطة تبدو مُمْكنة، وذلك لأنها تتبنى التعددية السياسية وثنائية السلطة / المعارضة والتناوب بينهما.
ولكنّ ذلك لا يعني أنّ أي تعددية سياسية أو انتخابات تنظم هنا أو هناك تتيح حتمًا فرصة انتقال السلطة. هناك عقبات كبيرة تحول دون عملية الانتقال في معظم البلدان التي لا زالت تشق طريقها نحو الديمقراطية.
لقد شاهدنا كيف أن عديد الحكومات اضطرت إلى الانفتاح ومسايرة الإصلاح إثر سقوط الثنائية القطبية وما رافقه من تحولات عالمية في تسعينيات القرن الماضي. فانتقلت معظم دكتاتوريات الأمس إلى منطقة رمادية، لا هي ديمقراطية بالمعنى الصحيح ولا دكتاتورية بالمعنى المطلق، واعترفت بالتعددية الحزبية و دعت لانتخابات تنافسية، ولكنها طورت في الوقت ذاته آليات وطرائق عمل كانت سببًا في إفراغ العملية الديمقراطية والانتخابية من جوهرها ومغزاها، ومن ثم منعت الانتقال السلمي للسلطة.
هكذا، عاشت موريتانيا كغيرها من الدول في القارة الإفريقية زمنا طويلا وهي تمارس "ديمقراطية شكلية" في إطار تعددية "صورية" وانتخابات لا تستوفي معايير الحرية والنزاهة المطلوبة. وظلت تراوح مكانها. وقد علمتنا التجربة أن إجراء انتخابات لا يكفي وحده للدلالة على الحرية والديمقراطية، وأن انتقال السلطة لا يتم إلا بشروط محددة. وهي الشروط التي ما فتئ شعبنا يناضل ويكافح لأجلها. وكان له ما أراد في انتخابات 22 يونيو 2019.
ومن أهم شروط الانتقال:
1. احترام القوانين والنصوص المعمول بها، وخاصة الدستور القاضي بالحد من عدد المأموريات الرئاسية إلى اثنتين فقط. لا شك في أن قرار الرئيس السابق عدم الترشح لخلافة نفسه احترامًا للدستور أعطى دفعا قويا للديمقراطية في البلاد وانتقال السلطة عبر صناديق الاقتراع، وساهم في أن يكون المشهد أكثر وضوحًا، واللعبة أكثر انفتاحا، والتناوب أكثر أملا.
2. تنافس 6 مترشحين على كرسي الرئاسة من بينهم شخصيات مستقلة وقادة أحزاب يمثلون الطيف السياسي المعارض والموالي، مما زاد في مصداقية العملية، وانعكس إيجابيا على نسبة المشاركة (62,66%)، وساهم كثيرًا في تعبئة وحضور المواطنين للتسجيل على القوائم الانتخابية والإدلاء بأصواتهم.
3. الاحتكام إلى انتخابات شعبية حرة ونزيهة على يد هيئة مستقلة مسئولة عن العملية مطلقًا. ومن الأهمية بمكان أن تحظى الهيئة المسئولة عن الانتخابات برضا الجميع، وتكون محل ثقة لدى الجميع. و لما كانت بعض أطراف المشهد السياسي المعارض غائبة عن تشكيل اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، فكان لزامًا على هذه الأخيرة إعطاء ما تستطيع من ضمانات لطمأنة وإقناع الجميع.
4. التراضي على قواعد اللعبة، وقد فتحت اللجنة جسور تواصل وحوار دائم مع المترشحين وحملاتهم سعيًا إلى التراضي والتوافق بين كل الأطراف. ومن أهم ما حرصت عليه اللجنة لتأكيد نزاهة الانتخابات: توزيع القوائم الانتخابية على المترشحين، والسماح لممثليهم بحضور الاقتراع داخل مكاتب التصويت، والتأكد من هوية الناخب ومن سلامة بطاقة التصويت، ومراقبة الفرز على كل المستويات، وتوقيع المحاضر وحيازة نسخة منها.
5. حضور قضاة معينين من طرف المجلس الدستوري لعمليات "مركزة" النتائج على مستوى المقاطعات وتزويد المجلس بنسخ من محاضر الفرز بصفته السلطة الأعلى في الانتخابات الرئاسية في بلادنا. فهو من يستقبل الطعون، ويبت فيها، ويعلن النتائج. وقد توصل المجلس فعلا بعدد من الطعون من 4 مترشحين في الآجال القانونية.
6. اضطلاع السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية بدورها كاملًا وبكفاءة عالية. ويتمثل في ضمان استقلال وتجرد وسائل الإعلام العمومية والاتصال، والحرص على استفادة المترشحين منها بالتساوي، ونزاهة الخبر، والحياد في المشهد الإعلامي.
7. جهود الإدارة والجيش لتوفير الأمن والطمأنينة، ومشاركة المجتمع المدني في مراقبة العملية وتوعية المواطنين وحثهم على ممارسة حقهم في الاختيار الحر والنزيه، ودور الناخبين والأحزاب والمترشحين والتزام الجميع بقواعد اللعبة واحترام القانون، ذلك أن أي انتخابات تفضي إلى انتقال ديمقراطي للسلطة لا بد وأن تتضافر فيها جهود الأمة كلها: المواطن والقاضي والحاكم والشرطي والسياسي والصحفي، والرابطات، والجمعيات، إلخ....
بهذه العوامل ال7 مجتمعة استطاعت موريتانيا التي لم تعرف في تاريخها غير الانقلابات العسكرية كسب رهان انتقال السلطة سلميًا وديمقراطيا من رئيس منتخب إلى رئيس منتخب في عرس انتخابي بهيج. وتمكنت اللجنة من استكمال عمليات الفرز وإعلان النتائج المؤقتة في أقل من 48 ساعة لأول مرة في تاريخنا. و تحصل الفائز على: 52,008%، والثاني على 18.579%، والثالث على 17.869%، من مجموع الناخبين المسجلين البالغ عددهم 1544132 ناخبا من بينهم 53% من النساء.
جرت الانتخابات بهدوء وفي ظروف حسنة بشكل عام، رغم ما لوحظ من نواقص في التنظيم تتعلق أساسا بتكوين الكادر البشري، و تطبيق قانون تمويل الحملات ومراقبة صرفها ضمن السقوف المالية التي يحددها القانون، واستخدام المال السياسي، وعدم الدقة في فرض قانون التعارض بين بعض الوظائف والأسلاك من جهة والعمل الانتخابي والسياسي من جهة أخرى؛ هذا بالإضافة إلى نواقص وإكراهات راجعة لأسباب موضوعية (مثل مساحة البلد: أكثر من مليون كيلومتر مربع، وصعوبة النقل، ومستوى العقليات، و البنية الاجتماعية، إلخ)؛ لكنما تم رصده من أخطاء وثغرات هنا وهناك لا يرقى إلى مستوى التشكيك في نزاهة الانتخابات
وفي الختام، ونحن نعتقد رغم ما حققناه، أننا لا زلنا في بداية الطريق إلى الديمقراطية ودولة القانون. ذلك أن التناوب على السلطة كما أنجزناه يحتاج إلى تحصين وتدعيم حتى يتعزز ويستوي على سوقه. ونحن ننظر إليه باعتباره برجا يؤسس ويشيد لبنة فوق أخرى، إنجازًا بعد إنجاز بالتدرج والتمهل والصبر والعزيمة. وقد أطلق الموريتانيون منذ العام 1992 كلمة "المسلسل" على مسارهم الديمقراطي، إدراكا منهم بأنه ينمو على مراحل ويختلف عن غيره في كونه لا يتوقف؛ رغم أنه يختلف عن غيره من البنايات والمسلسلات من قبيل كونه لا يتوقف عند سقف محدد! إن كانت له بداية معلومة، فليست له نهاية! إنه في تحرك دائم وتطور وتجديد .. ولذلك، فإن موريتانيا عاقدة العزم على مضاعفة الجهود وتجاوز كل الصعوبات المحتملة وسد النواقص وتطوير الإيجابيات. وستكون الأولية في المراحل القادمة باتجاه "الإنسان" عقلًا وثقافة وسلوكًا وعملًا باعتباره صانع التغيير وفارس الانتقال والإصلاح. لاشيء أهم من توعية المواطن على أهمية صوته وحقه في الاختيار الحر وإطلاق سراحه من سجن الولاء الضيق للعشيرة والجهة والعرق والشريحة والفئة، إلخ،،، وفي هذا الصدد، فإننا نعول كثيرا على دعم الأشقاء العرب وشركائنا في التنمية وعلى رأسهم برنامج الأمم المتحدة للإنماء.
أشكركم والسلام عليكم.