إلى صديقي الشاعر الكبير سدوم ولد أيده، تلبية لدعوته التي غبت عنها بسبب وجودي خارج الوطن
"لمرابط ماه صاحب إيگيو" (أ)
وبعد حديثنا المفصل في الحلقة الماضية عما يزخر به تراثنا العربي الإسلامي من آيات احترام وتقدير وإكرام الشعّار والشعراء، ووجوب اتقاء ألسنتهم، فقد يقول لي قائل: على رسلك! وما ذا عن التراث العربي الإسلامي في موريتانيا، وما للتزمت المرابطي من أثر؟! وما مدى اتقاء ألسنة الشعراء عندكم؟ وماذا عن العلاقة بين الشعّار والشعراء من جهة، والأمراء والفقهاء من جهة أخرى؟ خصوصا أن المثل الحساني يقول بجفاء وإعراض شديد: "لمرابط ماه صاحب إيگيو"؟!
وأقول إنه في الواقع لا يوجد استثناء في المجتمع الموريتاني عما ذكرناه آنفا؛ بل يوجد - على العكس من ذلك- غلو كبير.. ذلك أن المجتمع الموريتاني الشاعر طُبِعت في وعيه الباطني وفي ضميره الجمعي السماحة والتسامح وحب الخير والثناءِ، والخوف من ألسنة الشعراء وذمهم. فهو يؤمن إيمانا راسخا بـ"أن الشعر ليس له مرد" وأن العرض بياض و"البياض قليل الحمل للدنس". وأنْ:
وللشعراء ألســنة حــــــداد ** على العورات موفية دليله
إذا وضعت مكاويهم عليها ** وإن كذبوا، فليس لهن حيله
ومن عقل الفتى أن يتـقيهم ** ويدفعهم مدافـــعة جمــــيله.
وهذا ما سنلمسه فيما يلي:
حدثني المرحوم المختار ولد الميداح أنه يعرف رجلا "كاملا" يقول عن نفسه: كان ذلك قبل أن أموت ويأكلني إيگيو! سألته ما ذا قال له إيگيو؟ فقال:
آدَمَ وأمُّــــنا حـــــــو ** أرْخَسْ ذُرِّيِّتْهُمْ دَمَّـــــكْ
وابْنِ عَمَّكْ وانتَ هُوَّ ** أرْخَسْ دَمَّكْ وابْنِ عَمَّكْ.
وأعرف شخصيا، ولعلكم تعرفون، أناسا ذوي شأن يهربون من الانتماء إلى آبائهم، وينتمون إلى درجات أعلى بسبب الذم وما تركته مكاوي ألسنة الشعراء على الآباء، أعاذنا الله!
ومن الأمثلة الساطعة على وجوب اتقاء ألسنة الشعراء في المجتمع الموريتاني ما حدثني به الثقات (رحم الله من مات منهم وأطال بقاء الأحياء) عن حادثة جرت بين الشيخ العلامة أحمدُّ بن محمد محمود ولد فتى (اباه) وابن عمه وتلميذه الشاعر الفحل محمد ولد أبنو. وكان الشيخ والشاعر يشكلان حلفا سنيا لا يبارى في محيطهما الاجتماعي في مواجهة "طريقة القوم" تلاميذ الشيخ أحمد بن سيد آمين "شيخ الشيوخ"!
وذات يوم غضب الشيخ أحمدُّ من سلوك الشاعر محمد مع أحد من أهلهما، فنها عن مخالطته! فدخل محمد المسجد بعد غياب عن الحي، وهو أعز فتى فيه، فلم يسلم عليه أحد، فسأل عن السبب فقيل له إنه تنفيذ لفتوى من شيخه! فلما قضيت الصلاة توجه محمد إلى شيخه وقال له على غير عادته: "أحمدُّ ولد محمد محمود.. متى صرت إماما، ومن هي جماعة المسلمين التي نصبتك فأصبحت تفتي وتأمر وتنهي؟ أقسم بالله الذي لا إله إلا هو لتتركنني وشأني أو لأهجونك حتى تكون عبرة لمن يعتبر! فقال الشيخ العالم التقي الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعرف في نفسه سوء: "بُويَ محمد.. اهجُ فما ذا عساك تقول"؟ قال محمد على الفور: "يا أحمدُّ عندما أهجوك سأقول فيك الحق والباطل"! فقال الشيخ: "حسبنا الله ونعم الوكيل، صدق رسول الله، اتقوا ألسنة الشعراء"! وألغى فتواه بنبذ الشاعر! والشيخ أحمدُّ ولد محمد محمود ولد فتى قدوة عند الموريتانيين.
وأما مَثَل: "لمرابط ماه صاحب إيگيو": فهو محرف كغيره من الأمثال والألفاظ والأسماء التي تم تحويرها وتحريفها، من طرف العامة؛ مثله في ذلك مثل: "الدنيا ما حاشيها كوتي" الذي هو في الأصل "الدنيا محّايتْ شَكُوتي" ومعناه أن الدنيا متقلبة وتحسن بعد الإساءة، ومثل "شين الربعه على آزوازيل" الذي هو في الأصل "شأن الربعه على آزوازيل" ومعناه أن لكل ميدان أهله! فعمي على العامة المعنى الحقيقي للمثلين، فحرفت اللفظ وبدلته بلفظ قريب منه يماشي إدراكها العفوي البسيط. والأصل الحقيقي للمثل الذي نحن بصدده هو: "لمرابط ماهُ صَاحْ إيگيو". ومعناه تفنيد المتشبهين من المرابطين بالشعّار والشعراء. مثلهم في ذلك مثل بعض صحافة اليوم التي تتخلى عن رسالتها الاجتماعية الإعلامية التنويرية وتستبيح ميدانا وشأوا آخر لا علاقة لها به من قريب ولا بعيد! وقد أشار إلى هذا المعنى - منذ قرن ونصف تقريبا- الشيخ والأديب جدين ولد أحمد سالم ولد عبد الله ولد حبيني بقوله:
لِمْرَابِطْ لاَ جَ لِمْرَابِــطْ ** يگْدِرْ يِطْلِبْ لُ عَندْ الله
وَلّ يِفْتِيلُ فِالــــظَّابِطْ ** غَيْرْ إِچَرْبِــــيلُ مَانْ الله.
(إچربيلُ: يدفع له "التَّچَارْبِيتْ" أي الإتاوة).
وإن تراثنا العربي الإسلامي الخاص ليزخر بكثير من الأمثلة القاطعة على فساد وعدم صحة صيغة العامة من هذا المثل، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر:
* خصومة سدوم ولد انجرتو ومحمد شين أمام الشيخ الإمام سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم. وقد رواها رواة كثر، من بينهم الراوية الأديب محمد ولد باليل. وهذا ملخص روايته الموثقة بنص شهير لسدوم:
"كان سدوم ولد انجرت شاعر محمد شين، وكلاهما غني عن التعريف، وقد حاول محمد شين في إطار المزاح مضايقة سدوم فادعى حصول فتوى من شيخهما الإمام سيد عبد الله بحرمة الإعطاء للشعّار! فقال له سدوم: إذا كان الأمر كذلك فامسك عليك مالك، فأنا لا آكل الحرام ولا أنفق به على عيالي، ولنذهب إلى القاضي ليحكم بيننا! فذهبا إلى فضيلة الشيخ الإمام سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم. ولما عرض محمد شين دعواه، طلب القاضي من سدوم الرد عليها، فقال سدوم:
"يَلِّي تَلْــــغَزْ لَهْلْ الرَّدَّاتْ ** وَهَايْ اَسْمَعْ هَاذُ الْكَلْمَاتْ
النَّــــبِي عَـــلَيْهِ الصَّــــلاةْ ** وعْلِــــيهْ السَّـــــلاَمْ اَبَدِيهْ
فَاتْ انشِدْ فِطَّـــــوِيلْ أَبْيَاتْ ** عَبَّاسْ بْنُ مِرْدَاسْ اعْلِيهْ
اكَعْبْ ابْنُ زُهَيْرْ انشِدْ فَاتْ ** بَانَتْ سُــــــعَادُ بَيْنْ أَيْدِيهْ
واعْطَاهُمْ حَـــوَائِجْ زَيْنَاتْ ** واحْنَ مِقْــتَدْيِينْ أَلاَّ بِيـــهْ".
وعندها (يقول الأديب محمد ولد باليل) لم ينطق القاضي بالحكم، وإنما اتجه إلى "دبشه" وأخرج منه عطايا فاخرة وقدمها لسدوم. فقال محمد شين لسدوم: "هيا ننصرف.. لقد غلبتي".
ويزيد الفتى محمد ولد باليل قائلا: "ويعني هذا أن علينا - على الأقل- أن نعطي الشعّار العافية، فخير ما يعطيهم الإنسان هو نقودا أو سيارة أو دارا، أو - على الأقل- يعطيهم العافية ويعرض عن أذاهم".
يتبع